إغناسيو ألباريث ألبارينيو: طلاقُ أوروبا من شعوبها

إغناسيو ألباريث ألبارينيو: طلاقُ أوروبا من شعوبها

12 يناير 2024
إغناسيو ألباريث ألبارينيو
+ الخط -

يُعدّ إغناسيو ألباريث ألبارينيو، أستاذ قسم الدراسات العربية والإسلامية في "جامعة كومبلوتنسي" بمدريد، أحد أبرز الكتّاب والأكاديميين المختصّين بقضايا العالم العربي في إسبانيا، وخصوصاً القضية الفلسطينية.

كان من أبرز الأصوات التي كتبت في الصحافة الإسبانية منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزّة لتوضيح حقيقة ما يحدث في فلسطين للقارئ الإسباني. وفي حديثه إلى "العربي الجديد"، يوضّح موقف الغرب المزدوج من القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا الدولية، فالغرب، على حدّ تعبيره، متواطئ في العدوان على غزّة، وهمّه الوحيد مصالحه الجيوسياسية والاقتصادية والتجارية. من هنا يفسّر الباحث الإسباني هذا "التدليل" الغربي لـ"إسرائيل"، بصفتها رأس حربة مصالح الغرب في المنطقة. 

لا يتردّد ألبارينيو في الإشارة إلى تاريخ الغرب القائم على الاستعمار. هو تاريخ، كما يقول "لا يريد التخلّص منه حتّى الآن". أمّا بالنسبة لمواقف بعض المفكّرين الأوروبيّين الذين دعموا العدوان الإسرائيلي، فيفسّره بنوع من الرقابة الذاتية التي يمارسها هؤلاء على أنفسهم خوفاً من شبح الهامش وتهم معاداة السامية.

لا شك أن العدوان على غزّة وضع المثقفين الغربيّين أمام اختبار الحقيقة والعدالة الإنسانية وحرية التعبير. بعض هؤلاء الكتاب سقط في هذا الاختبار حبّاً بالمتن، وبعضهم الآخر قرّر أن يقول الحقيقة، حتى لو كلّفه الكثير. إغناسيو ألباريث ألبارينيو مثالٌ على ذلك.



■ أريد أن أبدأ من المنشور الأخير الذي نشرتَه على حسابك في فيسبوك، حيث قلت إنك تغادر هذا المنبر كي لا تكون شريكاً في تطبيع الاحتلال وممارساته، ما الذي حدث معك؟
 
- إننا نشهد تقليصاً واضحاً لحريّة التعبير من قبل إحدى شبكات التواصل الاجتماعي الأكثر استخداماً في العالم. إنَّ الرقابة ممارسة شائعة في معظم البلدان الاستبدادية، ولكنّنا الآن نرى كيف تشقُّ طريقها أيضاً في البلدان التي تتمتّع بمعايير ديمقراطية راسخة، مثل بلدان الاتحاد الأوروبي! ويحدث هذا أمام السلبيّة المطلقة للسلطات الأوروبية، التي تفضّل النظر في الاتجاه الآخر، بدلاً من مواجهة الشركات الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية وممارساتها المسيئة والضارّة. كما أنّه يشكّل سابقة خطيرة يمكن استخدامها في المستقبل للتدخّل في صراعات أخرى بناءً على مصالح ليس دولة فحسب، بل شركة معينة مثل "Meta". وهي، في هذه الحال، المالكة لمنصات التواصل الاجتماعي هذه. وأقصد فيسبوك وإنستغرام. أعتقد أننا كمستخدمين لهذه المنصات، يجب علينا عدم قبول هذه الممارسات والبقاء مكتوفي الأيدي.


■ سياسة فيسبوك في الرقابة على كل ما يتعلّق بفلسطين قد تكون استعارة للرقابة التي تمارسها الأنظمة الغربية على كل ما يتعلّق بمظاهر التضامن مع الشعب الفلسطيني، ما رأيك بهذه السياسة الغربية بحق فلسطين؟ 

- منذ قيامها، تمتعت "إسرائيل" بحصانة أنقذتها بشكلٍ تامٍّ من أي عقاب. وهذا ما أدّى إلى عدم امتثالها لعشرات قرارات الأمم المتحدة التي تطالب بانسحابها من الأراضي المحتلة، أو حق العودة للاجئين أو إنهاء الاستعمار والاحتلال. إنَّ الدعم غير المشروط الذي توفّره الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية يفسّر هذه الحالة في كل ما يتعلّق بسياسات "إسرائيل".

تصعب مناقشة القضية الفلسطينية بشكل عقلاني في الغرب

ليس هناك شك في أنَّ الجيش الإسرائيلي قد ارتكب جرائم حرب خطيرة ضدّ الإنسانية في عدوانه العسكري الأخير على قطاع غزّة، ممّا أدى إلى سقوط عشرات الآلاف من الضحايا المدنيّين، بمن فيهم المئات من العاملين في المجال الإنساني والأطباء والصحافيّين. وأمام تواطؤ العالم الغربي مع هذا العدوان، كانت جنوب أفريقيا؛ وهي دولة تقع في جنوب الكرة الأرضية وعانت من الفصل العنصري بشكل مباشر لعقود من الزمن؛ هي التي قدّمت شكوى بشأن الإبادة الجماعية أمام "محكمة العدل الدولية"، وهي الهيئة القضائية الأكثر صلة بالموضوع في العالم، لإدراكها التام أنَّ "إسرائيل" لا تحارب "حركة حماس" في غزّة، بل تشنُّ حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني وتستخدم فيها كل أنواع الأسلحة، بما في ذلك الحصار والتجويع. 


■ برأيك، ما أسباب هذا الدعم الغربي اللامحدود لـ "إسرائيل"؟ ألا يشعر الغرب بأنّه يغامر بمبادئ حقوق الإنسان التي يتفاخر بها أمام العالم حين يسمح بهذه المجازر؟ 

- تتمتّع أوروبا بتاريخ استعماري طويلٍ لا تريد أن تتخلّى عنه حتى الآن. ولولا دعم بريطانيا للمشروع الصهيوني لما كانت "إسرائيل" موجودة اليوم. منذ نشأتها، قدّمت "إسرائيل" نفسها باعتبارها رأس الحربة للغرب في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من انتهاكاتها المستمرّة للقانون الدولي، إلّا أنّها تحظى بمعاملة تفضيليّة من الاتحاد الأوروبي، الذي يعتبرها أقرب شريك له في البحر الأبيض المتوسط. هناك تناقض كبير للغاية بين القيم التي يدّعي الاتحاد الأوروبي الدفاع عنها ومصالحه الاقتصادية والتجارية والجيوسياسية. وعلى الرغم من أنَّ أوروبا تدعم حلّ الدولتين وتدافع عن الحقوق الوطنية الفلسطينية من الناحية النظرية، إلّا أنّها في الواقع لم تتخذ أي تدابير لمنع الاستعمار المكثّف لفلسطين من قبل قوات الاحتلال. هناك تناقض كبير بين ما يقوله الاتحاد الأوروبي وما يفعله على أرض الواقع. 

الصورة
إسبانيا والقضية الفلسطينية
غلاف كتاب "إسبانيا والقضية الفلسطينية"

■ ما أسباب هذا الانقياد الأوروبي الأعمى وراء السياسة الأميركية الداعمة للاحتلال؟ 

- يتكوّن الاتحاد الأوروبي من 27 دولة، لكل منها سياستها الخارجية الخاصّة. وعلى الرغم من المحاولات الرامية إلى تأسيس سياسة خارجية وأمنية مشتركة، فإنّ القوى الأوروبية الرئيسية ليست على استعداد للتخلّي عن امتيازاتها ومصالحها، التي تصب في نهاية الأمر بمصالح السياسة الأميركية الإمبريالية. وبالتالي تُقاوم تبنّي موقف مشترك في الصراعات الدولية. كان الغزو الروسي لأوكرانيا بمثابة تغيير مهم، لأنّه كان يُنظر إليه باعتباره هجوماً مباشراً من قِبَل بوتين على المشروع الأوروبي. في هذا الإطار، تمكّن الاتحاد الأوروبي من الموافقة على فرض عقوبات على روسيا وإرسال المساعدات الإنسانية والأسلحة إلى أوكرانيا. وفي حالة العدوان الإسرائيلي على غزّة، كشف الاتحاد الأوروبي عن انقساماته الداخلية، ليس فقط بين دوله الأعضاء، بل أيضاً بين مؤسّساته المختلفة. وهكذا، كان جوزيب بوريل، رئيس السياسة الخارجية والأمنية المشتركة، ينتقد "إسرائيل" بشدة، فيما اعتبرت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، أنَّ تدمير غزّة هو جزءٌ من حقّ "إسرائيل" في الدفاع عن النفس. ألمانيا، مثلاً المحرك الاقتصادي لأوروبا، رهينة المحرقة وتصعب عليها إدانة "إسرائيل" وممارساتها. 


■ هل يصدّق الأوروبيون حقاً السردية الصهيونية التي تحوّل الجلاد إلى ضحية؟ 

- أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى أنَّ إسرائيل تشنّ "حرباً حضاريّة ضد الهمجية" وأنَّ "حماس هي داعش نفسه". تأتي هذه السردية ضمن استراتيجية كسب تأييد الحكومات والمجتمعات الغربية لسياسة الأرض المحروقة ضدّ الفلسطينيين. في الغرب، كما هو الحال في العالم العربي، هناك طلاق كامل بين الحكّام والمحكومين، فبينما وقف الحكّام مع "إسرائيل" بعد عمليات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، عبّر المحكومون عن تضامنهم مع القضية الفلسطينية. وقد ظهر ذلك بشكل واضح من خلال التظاهرات العديدة التي جرت على الأراضي الأوروبية. يدرك نتنياهو تماماً الاستقطاب الموجود في المجتمعات الغربية ويحاول كسب تعاطف القطاعات الأكثر محافظة، التي لديها أيديولوجية معادية للإسلام بشكل علني.

يمارس المفكّرون في الغرب رقابة ذاتية لتجنّب المشكلات

ضمن هذا الإطار تبنّت أوروبا الرواية الإسرائيلية التي تصف الاحتلال بالضحية، والشعب المُحتَل بالمعتدي. علاوة على ذلك، فقد أصبح من الصعب على نحو متزايد الدخول في نقاش عقلاني حول القضية الفلسطينية، لأن أي انتقاد للسياسات الاستعمارية في فلسطين قد يوصف بأنّه معادٍ للسامية، لذلك يبدأ العديد من الأكاديميين والمثقفين والمفكرين في الغرب بممارسة الرقابة الذاتية لتجنّب الوقوع في المشكلات. هذه الممارسات شائعة في الولايات المتحدة، لكنها منتشرة بشكل أقل في أوروبا، حيث تشق طريقها شيئًا فشيئًا إلى دول مثل المملكة المتحدة أو ألمانيا أو فرنسا.
 
من ناحية أخرى، هناك معيار مزدوج واضح في الموقف الأوروبي في ما يتعلّق بالصراعات الدولية: فمن ناحية، يدين روسيا لغزوها غير القانوني لأوكرانيا، ولكن من ناحية أُخرى، يلتزم الصمت في مواجهة جرائم الحرب والانتهاكات والإبادة الجماعية التي ترتكبها "إسرائيل" بحقّ الإنسانية والشعب الفلسطيني في غزّة. 


■ كان موقف إسبانيا الشعبي والحكومي أكثر حزماً من غيره من دول الاتحاد الأوروبي، وقد ترجم ذلك من خلال المظاهرات الداعمة لفلسطين والتي تُندّد بحرب الإبادة، إلى ماذا يعود هذا الموقف برأيك؟

- تماماً. والواقع أنَّ الحزبَين اللذين يشكّلان الائتلاف الحكومي، وأقصد "الحزب الاشتراكي" وائتلاف "سومار" انتقدا "إسرائيل" بشدة، وأدانا انتهاكاتها للقانون الدولي، وطالبا بوقف فوري لإطلاق النار وإنهاء العدوان على غزّة. دفع هذا الموقف "إسرائيل" إلى سحب سفيرها في مدريد مؤقّتاً. وقد ذهب ائتلاف "سومار" أبعد من "الحزب الاشتراكي" في إدانة جرائم العدوان الإسرائيلي وطالب بتقديم المسؤولين عنها إلى "المحكمة الجنائية الدولية". 

لا تريد أوروبا التخلّي عن تاريخها الاستعماري

تقليديّاً، كانَ المجتمع الإسباني مؤيّداً لفلسطين. تاريخيّاً كان رئيس الوزراء الراحل أدولفو سواريز أول زعيم أوروبي يستقبل ياسر عرفات في العام 1979. قد يعود ذلك إلى وجود الأندلس، وما عنته حضارياً، من حيث إنها كانت مكاناً تعايشت فيه ثلاث ثقافات وديانات مختلفة: الإسلامية واليهودية والمسيحية. قد يكون هذا تفسيراً للموقف الإسباني الحكومي والشعبي، الداعم دائماً للقضية الفلسطينية.


■ هناك مثقفون أوروبيون، ومن بينهم إسبان، دعموا العدوان الإسرائيلي على غزّة ووجدوا له كافة المبرّرات، ما سبب ذلك برأيك؟ 

- أظنّ أنّه ينبغي أن نميّز بين مرحلتين: بعد عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها "حركة حماس" وغيرها من المنظمات الفلسطينية، كان هناك تدفّق واسع النطاق من التعاطف تجاه "إسرائيل" من قبل المثقفين الأوروبيين. وكان ذلك مرهوناً بالضغط الذي مارسه الإعلام والسردية الصهيونية المسيطرة عليه. ولكن، مع مرور الوقت وظهور مدى وحشية الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزّة، فقد هذا التيار قوته، وتبنّى العديد من المثقفين لهجة أكثر انتقادًا تجاه "إسرائيل" وانتهاكاتها للقانون الدولي. المجتمع الأوروبي، عموماً، مستقطب للغاية، وتميل الأحزاب اليمينية فيه إلى أن تكون أقرب بكثير إلى "إسرائيل"، في حين تدافع الأحزاب اليسارية بوضوح عن حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. 


■ قلت إنك بدأت بتأليف كتاب عن غزّة. ما هي فكرة الكتاب؟ 

- ليس كتاباً تاريخياً يحلّل القضية الفلسطينية منذ نشأة الحركة الصهيونية إلى يومنا هذا، بل هو كتاب يسلّط الضوء على الأحداث الأخيرة، لا سيما العدوان على غزّة، بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. هدفي من الكتاب هو توفير السياق التاريخي اللازم لفهم القضية الفلسطينية. الوضع الراهن. وعلى الرغم من أنه الصراع الاستعماري الأطول أمداً، إلا أنّ هناك جهلاً عميقاً بهذه القضية من جانب المجتمعَين الإسباني والأوروبي. أحد أهداف الدعاية الإسرائيلية هو تجريد الشعب الفلسطيني من إنسانيّته وجعله غير مرئي، لذلك أعتقد، في هذه اللحظة الدقيقة التي نمرّ بها، أنه من الواجب الأخلاقي مكافحة هذه الرواية الإسرائيلية بالحُجج.


بطاقة

Ignacio Álvarez -Ossorio Alvariño أكاديمي وباحث إسباني وأستاذ الدراسات العربية والإسلامية في "جامعة كومبلوتينسي". يدير حالياً مجلّة "Anaquel de Estudios Arabes" ومجموعة "كومبلوتنسي" للأبحاث حول المغرب العربي والشرق الأوسط. عضو مجلس إدارة اللجنة الإسبانية لـ"وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين" (أونروا). له العديد من الكتب حول فلسطين، من أبرزها: "إسبانيا والقضية الفلسطينية" (2003).

المساهمون