أن تكون فلسطينيّاً في زمن الإبادة

أن تكون فلسطينيّاً في زمن الإبادة

05 يناير 2024
طفل فلسطيني فوق دمار عمارة سكنية أحدثه قصف العدوان في مدينة غزة (Getty)
+ الخط -

لا أُشارك أصدقائي الناجين بالصُّدفة مثلي من عمليات التطهير العِرقي التي تجري الآن على شعبي في فلسطين، لا أشاركهم الشعور بالخجل من عاداتي اليومية، ومن مُمارستي لمتطلّبات الحياة الأساسية، ذلك لأنّي كما حتَّمت عليّ فلسطينيتي قلّما تجاوزتُ هذه الحاجات الأساسية إلى ما هو أبعد منها، فأنا رغم خروجي من البلاد، وابتعادي الفيزيائي عن مكان الخطر، لم أنفصل حقيقةً ولا مجازاً عنها، ولم أنخرط بأيّ شكل من أشكال المساومة أو المتاجرة أو حتى النسيان والتجاوز.

من جهة، فتقريباً كلّ الناس الذين أكترث لهم وأحبّهم من أفراد العائلة إلى الأصحاب والجيران، كلّهم لا يزالون هناك، وكلّهم قابعون في مرمى عملية التطهير الجارية، ويصعب التنبُّؤ بمصيرهم وتطوّر الأحداث من حولهم مع كّل حدث يتنامى، والأحداث كثيرة لم تنقطع حتى لو أردت تجاهل أخبارها أو نسيان حدوثها، فحتى لو كنت ممّن يقول: "اللّهم أسألك نفسي"، فإن معظم نفسي ما زال هناك، وما زال في معرض الخطر وتحت التهديد المستمرّ. 

ومن جهة أُخرى، فأنا لم أستطع ولم أُرد أن أتخيَّل لي مستقبلاً خارج البلاد أو دونها، كلّ طموحاتي المستقبليّة وتخيّلاتي مُرتبطة ليس بالضرورة بعودتي إلى البلد، بل بوجوده وأمانه وسلامته، ونجاة كلّ من فيه، وازدهار حياتهم وتطوّر معيشتهم، ولا معنى لأيّ تحسّن لمصيري الفردي دون أن يُكتب للبلد النجاة والاستقرار والسلام العادل.

لذا لا أخجل من ممارسة حياتي الاعتياديّة لأني حصرت هذه الحياة الاعتيادية بحدود فلسطينيّتي، فعلى الرغم من أنّني قد أكون من أكثر الفلسطينيّين حظاً وأسلمهم مصيراً بالمقارنة مع المستهدَفين مباشرةً، ومن أكثر من عقدين في قطاع غزّة، الذين لا يملكون رفاهية السفر، لا لعلاج ولا لتعليم، وبالمقارنة مع المختنقين في المخيّمات، المحاصرين أمنيّاً وماديّاً ونفسيّاً، وبالمقارنة مع المضطرّين للعمل في الداخل وتحت تجبّر المستوطنين. 

رغم أن مصيري لم يكُن صعباً كهذا وطريقي لم يكن محصوراً مثل هؤلاء، إلّا أنني استخدمت ما طاولني من معاناة شعبي، أثناء المرور بالجسر ونقاط التفتيش، وذكريات في تلّ الرميدة مقابل مستوطنات الخليل وأثناء منع التجول، ورؤيتي للكثير الكثير من المُصابين والشهداء والأسرى المجرورين في الشوارع.

الخطر الحقيقي الذي يتهدَّد وجود وإنسانية كل عربي

استعملت كلّ ما طاولني من هذا، سواء ما أصابني مباشرةً أو أصاب مَن حولي، ثم إدراكي بالمصائب الأوخم التي تحلّ على الأتعس حظّاً من أقراني الفلسطينيّين، الذين لم يحمِني من مصيرهم سوى الصدفة والحظّ ليس إلّا. استعملت إذاً هذا الإدراك لأحرص دائماً على حصر حياتي وتصرُّفاتي واختياراتي الشخصيّة بكوني إنساناً فلسطينياً، يتعرّض - شخصياً - للإبادة الجماعية، ويهدَّد - شخصياً - بالتشريد والتدمير والفناء. 

لا أقول هنا أنني قمت بتضحيات، لا يُمكن إطلاق على هذه الاختيارات وصف التضحيات، لأن التضحية تكون بالتخلّي عمّا يملُك الإنسان في سبيل غاية يُؤمن بها، وأنا لم أتخلَّ عن شيء أملكه، لا مادياً ولا معنوياً، فلم أفرِّط في وظيفة، ولم أترك منصباً لأقول كلمة أو أتّخذ موقفاً. 

ما قمتُ به كان إجراءات احترازيّة لمنعي من النسيان والتجاوز والتخلّي، يتضمّن هذا مثلاً عدم رغبتي في الانخراط التامّ في الحياة الأكاديمية بالجامعات الألمانية، ولا طلبي للمِنح والمساعدات، وتجنُّبي للعمل والتدريب في شبكات إعلامية أو مؤسّسات فنية، لأني أخاف أن أضطرّ للمساومة والتفريط وإخفاء ما أومن به وأتوق إليه. والأهمّ من ذلك هو تجنّبي - ربّما لا شعورياً - أن أعيش حياة مرتاحة هانئة أخاف على تقلّبها وانقلابها، كلّما اشتدّت الأحوال في بلدي.

بالتأكيد لا ألوم من فعل هذا ونجح فيه، ولا أشير بإصبع الاتّهام إلى أحد، هذا حقّنا وحقّ كلّ إنسان، ما أفعله هو محاولة بيني وبين نفسي، لفَهم تصرُّفاتي وقراراتي وكيف ارتبطت دائماً - بوعي أو بدون وعي منّي - بفكرة فلسطينيّتي، وأن مصيري ومستقبلي وشعوري مُرتبطة بفلسطين وأهل فلسطين، من أعرفه منهم وأخاف بصورة مباشرة على حياته وأمنه ومستقبله، ومن أسمع عنه ممّن ارتبط مصيرُهم بمصيري من بقيّة أبناء شعبي. هذا لا يعني أني لم أحاول تغيير واقعي وتحسين ظروف حياتي، حاولتُ كثيراً لكن دائماً كنتُ أضع بين عينيّ أني فلسطينيّ وأنّ أهلي وأقرب أصدقائي في فلسطين. 

هذا بالنسبة للخجل، أمّا الشعور بالعجز فهو الأقرب لِما أشعرُ به أحياناً في ظلّ هذه الأحداث المُرعبة، وهذا الخطر المُحدق بالعُمران والبشر في قطاع غزّة خاصةً وفلسطين عامة، لكنّ الشعور بالعجز حتى لو كان هناك ما يبّرره وما يثبتُ صحّته، إلّا أنّه شعورٌ سلبي يحُيل الإنسان إلى كتلة بشرية خامدة، لا يبثّ منها أيّ فكرة غير الضعف والحسرة. ورغم أنّ الحسرة والحزن لهما ملايين الأسباب التي تبرّرهما هذه الأيام، إلّا أنّهما مشاعر غير مُنتجة.

لا أقول هنا إنّ على الإنسان أن يمنع نفسه من الحُزن والبكاء وحتى الانكسار، لا هذه ردّات الفعل البشرية الطبيعية على هذا الظُّلم الواقع، لكنّها مشاعر لا تتجاوز صاحبها، ولا تُساعد لا في نَجاته شخصيّاً ولا في تخفيف المُصيبة الواقعة على شركائه في الأرض والمصير.

قبل أن أسأل نفسي ماذا يُمكن أن أفعل؟ سألتها كثيراً ولم أنقطع عن هذا السؤال، حتى قبل العدوان الأخير على غزّة، ذلك لأن اعتداءات الاحتلال لم تتوقّف منذ دبَّ فيَّ الوعي في الحياة، مثلي مثل أي فلسطينيّ بدأتُ طرح هذا السؤال على نفسي منذ أول أيّام الطفولة، نعم لماذا يُوقفني الجنود ويفتّشون حقيبتي ويعاقبونني على المسطرة الحديد والفرجار وأنا عائد من المدرسة؟ ولماذا يُوقفني مستوطنٌ من عمري ليضربني على رأسي، وحين أهمّ بردّ الضربة إليه، ينقضُّ على ظهري أخوه الأكبر قليلاً، والذي يحمل بندقية، لـ"يفصل" بيننا، وهو يوجّه لي دون أخيه الشتائم والتحذيرات؟ 

لماذا يحقّ له حمْلُ بندقية، بينما يتوجّب علي أن أترك الفرجار على مكتبي في المدرسة؟ هذا الأسئلة لم تتوقّف قطّ، كانت تزيد بالوعي، وتُهذَّب بالمعرفة، لكنّها لم تتوقّف، حتى حين غادرتُ البلد، وابتعدت فيزيائياً ولفترات زمنيّة محدودة عن الخطر والتهديد. لكنّي ما زلتُ عاجزاً عن حماية بقيّة أهلي، أو حفظ كرامتي وأنا أمرُّ بـ"المعابر" والحواجز، والأصعب من كلّ هذا، ما زلتُ عاجزاً وأنا أرى بقيّة شعبي يُباد إبادة جماعيةً، أطفالٌ يشبهونني ويحلمون بما أحلم، ويعرفون ما أعرف، تتمزَّق أجسادُهم وتفنى مصائرهم. 

أنا عاجز عن وقف كلّ هذا، لكنّي لا أريد أن يكون شعوري بالعجز سلبيّاً، لذا بدل أن أستسلم له صرت أعود إلى أسئلتي، ثم أُعلي صوتها وأرفع وتيرتها، حتى ولو سبَّبت لي ألماً، ومنعتني من النوم والهدوء، لذا أسأل نفسي لم ما زلت عند هذه النقطة، لم لا يزال صوتي منخفضاً ووصولي محدوداً، لم لا أزال أخاف على صفتي القانونية في هذا البلد، وأخاف على وظيفتي، لماذا لم أُنجز كلّ هذه الأمور أسرع من هذا؟ لماذا سمحت لنفسي أن أنجرّ خلف كلّ هذه الرغبات والطموحات؟ لماذا قضيت وقتاً طويلاً أحارب أشباحاً، وأطارد رغبات لا أحتاج إليها؟

عندي أجوبة مستفيضة الآن، بالتأكيد لا تعني أحداً غيري، فهي أجوبتي لنفسي، بعضُها مرتبط بالتقصير، وبعضها الآخر بسوء الإدارة، وكثير منها مرتبط بأشياء خارجة عن إرادتي، مرتبطة بلا شكّ في كوني فلسطينياً وبالطبيعة النفسية والاجتماعية التي كبرت فيها. المهمّ الآن ليس تفاصيل هذه الإجابات، بل التركيز على استمرار عملية المحاسبة الذاتيّة هذه، لأضمن إن كُتب لي - مصادفةً مرة أُخرى - النجاة من عملية الإبادة القائمة، أن أتصرّف بشكل أقوى ويكون لي حضور أبرز، وأنا بهذا وحين أكتب هذه الكلمات لا أريد أن أكتفي بنفسي، بل أريد أن تكون المحاسبة والمكاشفة لكلّ فلسطيني أو عربي يرتبط وجوده بهذه الأرض وهذه القضية، أن يسأل نفسه: إلى أيّ مدى سمح لزُخرف الحياة أن يُبعد تفكيره عن الخطر الحقيقي المُحدق الذي يتهدَّد وجوده وإنسانيته؟ 

أنا عاجز أو محدود القدرة لا شكّ في هذا، لكني لست سلبيّاً ولن أسمح لنفسي أن أكون، لا أمتلك رفاهية أن أكون سلبيّاً، فإن غفوتُ أكلني الذئب وهجم على من خلفي، لن أشعر بالخجل من نجاتي التي لم أخترها، ولن أسمح للعجز أن يُعميَني عن حقيقة أني ما زلت حيّاً، وفيَّ الرَّمق لأقوم وأقول وأفعل. 


* كاتب من فلسطين مقيم في ألمانيا

موقف
التحديثات الحية

المساهمون