فيما يرى النائم

فيما يرى النائم

26 يوليو 2019
+ الخط -
استيقظ البكباشي يوسف صديق من نومه مفزوعاً صارخاً بعزم ما فيه: "لأ بلاها أحسن". 

جرت زوجته لتحضر له كوباً من الماء وهي تقرأ آية الكرسي والمعوذتين وتسأل الله الستر والعافية. ناولت زوجها كوب الماء وأخذت تنظر إليه وهو مبهور الأنفاس زائغ العينين، سألته وهي تطبطب عليه: "ما لك يا حبيبي؟ طمني عليك.. في إيه كفى الله الشر؟".

هز رأسه دون أن ينطق وقد قرر أن يكتم عنها ما رآه في منامه. وهي اختارت ألا تلح عليه وقالت له: "مش عايز تحكي بلاش.. المهم استعذ بالله من الشيطان الرجيم واهدأ كده.. إنت محتاج تنام عشان وراك ثورة.. لسه فاضل أربع ساعات على معاد صحيانك.. ده أنا كنت سهرانة كل ده باصلي وأدعي إن حركتكو المباركة تنجح وتكسَّر الدنيا بإذن الله". 

لم تكن تعلم أن كلامها ينزل عليه كالسكاكين، كانت تظنه متهيباً مما أسنده إليه رفاقه من دور خطير، أخذت تقول له: "أنت قدها وقدود يا يوسف.. ومصر كلها أملها فيك وفي اللي معاك.. ما أنت شايف البلد واللي عمله فيها الملك ربنا ينتقـ..."، فوجئت به يصرخ فيها: "ما هو ده اللي راعبني"، بادرته وقد زاد قلقها عليه: "هو إيه اللي راعبك يا يوسف؟"، أخذ نفساً عميقاً وأكمل شرب كوب الماء وقرر أن يشاطرها همه: "مرعوب من الكابوس اللي شفته"، قالت ملهوفة: "شفت إيه؟ إحكِ لي"، ثم استدركت وذكّرته بأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ويبصق على ذراعه اليسرى ثلاثاً كما علمتها أمها، ثم أخذت تستمع إليه وهو يرتجف من هول ما رآه، وقد صارت هي بدورها ترتجف من هول ما يحكيه:

"شفت نفسي أنا وجمال وحكيم وخالد وزكريا وحسين وصلاح وجمال سالم وأنور والبغدادي وكمال حسين وكل اللي معانا في الضباط الأحرار، وإحنا عواجيز أوي، يعني كل واحد فينا ييجي عنده بتاع ثمانين سنة مثلاً، بس كنا لابسين البدل العسكرية بتاعتنا وعليها نياشين وأوسمة كتير، وداخلين قصر عابدين اللي كان فيه زي ما يكون كده حفلة كبيرة أوي، ما كناش نعرف حد من اللي حوالينا، بس كلهم كانوا بيعاملونا باحترام، وبيسقفوا لنا جامد، وعمالين يقولوا أهلاً بأبطال الثورة، لما سألنا عن الحكاية عرفنا إن دي حفلة تنصيب ريس جديد للبلد، قالوا لنا إن ده الريس الخامس للجمهورية، كلنا فرحنا لما سمعنا كلمة الجمهورية، قلنا يبقى اللي عملناه نجح والملكية سقطت والحمد لله، بس بعد لحظة أنا استغربت لما سمعت كلمة الخامس، مَيِّلت على خالد محيي الدين وقلت له: الريس الخامس إزاي، ده إحنا عجّزنا أوي، يعني فات على الثورة يجي ستين سنة مثلاً، يعني كل ريس حكم له بتاع خمستاشر سنة، يبقى إحنا عملنا إيه بقى؟ وهو نظر إليّ مستغرباً وقال لي: يا أخي إنت بتركز في حاجات غريبة أوي، مش لما نشوف الأول مين اللي حكموا البلد وعملوا فيها إيه ومين اللي هيحكمها دلوقتي. فجأة لقينا أنور جاي علينا وبيقول لنا: تخيلوا سمعت ناس بيقولوا إن اللي هيحكم هو الشاب اللي هناك ده. أنا فرحت وقلت له: الله ده شاب من دورنا، قصدي من دورنا لما عملنا الثورة، جمال قال له: بس ده لازم شاب فلتة عشان الناس تحتفي بيه كده، أنور كتم الضحكة وقال له: فعلا؛ أصله ابن الريس. وكلنا قلنا: مش معقول؛ يبقى إحنا كده عملنا إيه؟! كان في واحد واقف جنبنا سمع اللي قلناه قعد يشرح لنا إننا فاهمين الموضوع غلط، وإن دلوقتي في انتخابات والشعب هو اللي بيختار بمحض إرادته ومن غير ما حد يضغط عليه. وطلب مننا نروح عشان نتعرف عليه، أنا قلت ماليش في الكلام ده طالما الشعب هو اللي بيختار، أنا أسمع رأي الشعب أحسن. 

طول الوقت كان في جرسون بيبص لنا بشكل فظيع كأنه مش طايقنا، رحت سألته: إنت يا أخينا أنا مش طالب منك قهوة بقى لي ساعة؟ طب أنت مش طايقني هات لي القهوة، لقيته بيقول لي: أنا آسف يابيه، إنت مالكش ذنب، أنا متغاظ من الجماعة اللي معاك، كلامه كان غامض حبتين قعدت أنكش فيه وأقرره عايز أعرف منه حال البلد بقى عامل إزاي، ويا ريتني ما سألت، الواد قال لي وهو هيموت من القهر: من ساعة ما شلتوا الملك بقى كل واحد ملك على اللي تحت منه بيطلع في عينه ويستبد بيه.. زاد عددنا وقلّت قيمتنا.. الفقر زي ما كان على أيام الملك يمكن باستثناء إن ما عادش في حد بيمشي حافي، بس لو فضل الحال كده مش بعيد يرجع الحفاء تاني، التعليم بقى ألعن من أيام الملك، تخيلي، الإخوان المسلمين بقوا المعارضة بعد ما كانوا بتوع القصر، المسلمين والمسيحيين مش طايقين بعض، وكل واحد فيهم بيقول البلد دي بتاعتنا، العيب في الذات الملكية بقى اسمه تهمة إهانة الرئيس، والإقطاعيين بقى اسمهم كبار المستثمرين، والفاسد يشيلوه من الوزارة يدوا له بنك ولا شركة بترول، إسرائيل بقى ليها سفارة في قلب مصر، والمصري ما عادش بيموت في بلده بقى بيموت وهو بيسيب بلده، وبدل ماكنتو عايزين تقضوا على الاحتكار، الاحتكار هو اللي هيقضي علينا، والحياة الديمقراطية السليمة اللي قلتوا عليها رسيت على اللي أنت شايفه... صحيت من النوم مفزوعًا وأنا باقول: لأ بلاها أحسن.. لأ بلاها أحسن". 

... ولما حان موعد ذهاب يوسف صديق إلى وحدته العسكرية ليؤدي مهمته المرتقبة، كان قد انتهى من صلاة الاستخارة وسلّم أمره إلى الله عز وجل، التفت فرأى زوجته غارقة في همها، فذهب إليها ليخفف عنها قائلا لها: "بقى كل ده عشان حلم؟ يا ستي ده أنا نسيته بعد ماحكيتهو لك"، فقالت له: "وهو ده كابوس يتنسي.. افرض اللي قالك الشاب إنه هيتعمل فيك حصل فعلا!!"، قال لها بابتسامة مَنْ تخلص من قلقه: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، فقالت له وكلها رجاء ألا ينزل: "طب والبلد؟!"، فقال لها وهو يغالب قلقه: "يا ستي إحنا نعمل اللي علينا وخلاص"، فواصلت قائلة: "يعني معقولة بعد كل اللي هتعملوه يمكن البلد ترجع ملكية تاني؟"، فقال لها مبتسما راضيا: "يا ستي لو كان ده اختيار الشعب يبقى يدفع ساعتها تمن اختياره". 

خرج يوسف صديق من بيته، وبعدها مباشرة صحوت أنا من النوم مفزوعاً وعندما صرخت لم أجد صوتي.

...

ـ نُشرت هذه القصة في 23 يوليو/تموز 2009 بعنوان (كابوس البكباشي يوسف صديق) وأظنها للأسف لا زالت صالحة للنشر والتأمل ـ 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.