كرة القدم بديلاً عن خيبات السياسة

كرة القدم بديلاً عن خيبات السياسة

10 ديسمبر 2022
+ الخط -

يمكن التقاطع مع العديد من السرديات السائدة، من كون كأس العالم فرصة تستغلها الأنظمة لتمرير سياساتها الموجعة في غفلة من شعوبها المنشغلة بسحر اللعبة، كذلك يمكن التقاطع مع سردية أخرى، تقول إنّ كرة القدم هي أفيون جديد للشعوب، يُذهب عقولها عن استحقاقاتها الجدية. لكن، وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن بأيّ حال من الأحوال، إنكار أهمية هذا الحدث الرياضي، كي لا نتنكّر لرسائله الإنسانية برمتها.

هذه الدورة من كأس العالم 2022، والمقامة في دولة قطر، شكّلت بالنسبة للعديد من الشعوب فرصة لاستنهاض قومياتها واسترجاع بعض الفخر بالانتماء، حيث عرفت هذه الدورة، تمرّد المستعمرات على الدول الاستعمارية التي ما زالت تحتقر هذه الدول وتعتبرها "تابعة" لها، ثقافياً وسياسياً واقتصادياً، وحيث لم تستطع الشعوب التفوّق على هذه القوى في ميادين عدّة، فإنها استطاعت عن طريق كرة القدم، كسر الصورة النمطية التي ترسخت في الأذهان لسنوات طويلة.

وعن مسألة تحوّل كرة القدم إلى بديل ثوري عن خيبات السياسة، وخاصة بعد أن فشلت الأنظمة في صنع أي نوع من الفرحة لشعوبها، استطاعت هذه اللعبة تعويض الشعوب خلال تسعين دقيقة أو أكثر، كانت كافية لإثارة مسألة الخيبات المتتالية، والتي ظنّنا إلى حين، أنها لن تزول، بعد أن فشلت الطبقات السياسية أيضاً، في إخراج شعوبها إلى الميادين والساحات وتوحيدها حول رايتها الوطنية، في حين استطاعت كرة القدم فعل ذلك بكلّ عفوية وتلقائية، بمجرّد الفوز أو حتى الخروج المشرّف من الأدوار المتقدّمة للمسابقة.

كثيراً ما شهدنا تمرير الرسائل السياسية في تظاهرة كرة القدم، خاصة باقتناعنا أنّ جمهور اللعبة هو مجتمع مصغّر يعكس ديناميكية الشعوب، حتى إنّ ما يصل من رسائل عن طريق المدرجات قد ينذر أحياناً بتحوّلات اجتماعية مهمة لها نتائجها السياسية اللاحقة، وهو ما تحقّق في العديد من الدول التي عرفت الانتفاضات والثورات. حتى عنف الجماهير، يمكن أن يُفهم على أنّه تمرّد على السلطة القائمة وأنظمتها البوليسية الخانقة، وبذلك نجحت الجماهير إلى حدّ ما، من خلال استغلال كرة القدم، في تسليط الضوء على ممارسات السلطة العنفية، وكانت بذلك تؤشر على رفضها وضعاً معيناً، وترسل تحذيراً للطبقة السياسية من الانفجار الكبير.

إنّ خيبات السياسة لا تمحى في مجملها، لكن يمكن لحدث عالمي مهم ككأس العالم أن ينسينا بعضها ويستنهض فينا الكثير من الإقدام على دحضها

ومن خيبات السياسة أيضاً هو قصورها عن مناصرة حركات التحرّر في العالم والانتصار للقضايا العادلة، بينما فعلت كرة القدم ذلك، حيث رأينا في أكثر من مباراة انتصار الجماهير للأقليات المضطهدة والشعوب الطامحة للانعتاق.

ولعل أبلغ هذه الرسائل، تمثلت بنزول الراية الفلسطينية إلى أرضية الملعب، وحضورها المستمر في المدرجات بما يوازي حضورها في وجدان كلّ الشعوب المؤمنة بالحق الفلسطيني على أرضه، حتى من خارج القومية العربية والشعوب المسلمة.

وعن فلسطين أيضاً، يمكن القول إنّه كان لوجود الأعلام الفلسطينية، وتتالي الحركات الرمزية المساندة لها في المدرجات وفي الميدان، رسالة موجهة بالبريد المضمون إلى الأنظمة الرجعية، والتي لم تتماه مع شعوبها في رفض التطبيع، فوجدت نفسها محرجة من الممارسة الشعبية في الانتصار للقضية الفلسطينية ودحر المساعي المحمومة لتسلّل هذا الكيان إلى شعوب لم ينضب أملها في تحرير فلسطين، على الرغم من تباعد النكسات، وتواصل النكبات، وتطبيع الأنظمة التي عليها أن تعي جيداً أنّ البروباغندا لا تستطيع أن تحجب ضمائر الشعوب ولا حتى أن تزّيفها.

أخيراً، يمكن القول، لقد شكّلت قضايا التحرّر، والقضية الفلسطينية في مقدمتها، محور هذه الدورة من كأس العالم، وشكّل حضور الشعوب في رفضها التطبيع، صفعة لما تقترفه الأنظمة وما تحاول تسويقه عن شعوبها التي تصوّرها أنها عبرت إلى ضفة اللاعودة في مناصرة أعدل قضايا الأرض، فجاء المونديال ليثبت العكس.

إنّ خيبات السياسة لا تمحى في مجملها، لكن يمكن لحدث عالمي مهم ككأس العالم أن ينسينا بعضها، ويستنهض فينا الكثير من الإقدام على دحضها، لنكون شعوباً متآلفة، تنتصر للقضايا العادلة، وتقوّم انحرافات الأنظمة عن البوصلة الثابتة.

صبري الرابحي
صبري الرابحي
كاتب تونسي نقابي وحقوقي وناشط بالمجتمع المدني ومراسل صحيفة الشعب الناطقة باسم الاتحاد العام التونسي للشغل. يكتب في عدد من الصحف والمواقع العربية. مقولتي "كلّ شيء بخير، ما دمت أكتب بدون توقف وبحرية"