عن المسرحيّة ووقاحة المتفرّجين

عن المسرحيّة ووقاحة المتفرّجين

18 ابريل 2024
+ الخط -

أشفقُ كثيراً على أهلِ المؤامرة، أولئك الذين لفرطِ عجزهم لا يقدرون على تصوّرِ حدوث فعلٍ حقيقيٍّ بأيّ ساحةٍ دون افتراضِ مسرحتها أولًا؛ أعراضُ انهزامٍ هذه وتجلياتٌ لمطلقِ اللاأثر، يبثّونه في محيطهم، وإن لم يدركوه في أنفسهم، كأنّما فقدوا كلَّ أملٍ في حلحلةِ الواقع إلّا باتّفاقِ مكوّنات متنه (اتفاقًا تمثيليًّا موجّهًا لجمهرةِ المتفرّجين الذين هو واحدهم).

مُنكر أصواتهم التي ابتلعتها الخطوب كانت تنهق: يناير مؤامرة، 11 سبتمبر صنيعة السي آي إيه، 7 أكتوبر خطوة موساديّة لتمرير التهجير بالاتفاق بين السنوار ونتنياهو (قالتها أستاذة جامعيّة مصريّة في ندوة بنقابة الصحافيين في الشهر الأول من الإبادة)، وحتى تظاهرات القاهرة، تلك التي لم تكد تبدأ إلّا وضُرِبت واعتقل ناسها، هي صنيعة أجهزة... إلى آخرِ هذا الجنون.

هذه أعراضٌ لأمراضٍ تستحقّ النظر والعلاج، لكن ماذا عن الوقاحة التي تلبّست "الذباب الإلكتروني" الذي يُسفّه من الفعل الأخير، الفعل الأوّل منذ عقود، الفعل الذي يُعيد ضبط حدود الصراع، ولو ضبطًا مُقاسًا على المصلحة وتوازنات القوى، ومتجنّبًا لأمانيّ الكثيرين (وأنا منهم)، أن يبتلع الجحيم هذا العدوّ ثأرًا للأهل في فلسطين، ولو ظلّ الفعل صادرًا عن خصومٍ في كثيرٍ من معارك الإقليم، ولو كان الغرضُ هيبة إيران، لا تحرير فلسطين، ولو كان ما كان.

لا يعنيني تناقضات الموقف من إيران الآن، كقوّةٍ إقليميّة ودوليّة تنتزع مكانتها غصبًا عن الجميع (بمن فيهم العرب المتفرّجون الانسحابيون، الذين قبلوا التبعيّة، فلم يعد يعبأ بوجودهم أحد، باستثناء المقاومة التي تتنكّر لها العروبة الرسميّة وتلفظها، بل وتحاربها)، ولا يعني دفاعي عن خطوة الأمس أو دعمي لها دعمًا لفاعلها، فالفارقُ كبير، وما تمثّله الضربة يتجاوز بكثير في رأيي شكل علاقتنا بالضارب، خصوصاً في لحظةٍ كتلك، وهو ما يعيدنا للتذكير: المواقف معقّدة ومتشابكة، ولا يعني رفضي للدور الإيراني في المنطقة ألّا أعبأ بأيِّ رصاصةٍ تُطلقها على العدوّ (تعريفًا بالألف واللام).

لا يعني رفضي للدور الإيراني في المنطقة ألّا أعبأ بأيِّ رصاصةٍ تُطلقها على العدوّ

ما يعنيني في ما حدث بالأمس، أنّ أحدًا تجرّأ على المارد المتوهّم تجرُّؤًا عسكريًّا مباشرًا وعلنيًّا، انطلاقًا من أرضه، وصولاً إلى أرضنا المحتلّة، رغم مروره بطبقاتِ الصمت العربيّة ودفاعاتها التي ما تحرّكت إلّا لعيونِ العدو، أو بحسب يديعوت أحرونوت عن الأردن: فتحت مجالها بالتنسيق لسلاح جوّ العدو ليتصدّى للمسيّرات الإيرانيّة، ورغم ذلك وصل إلى بعض أهدافه وأصابها (أكثر من مليار دولار كلفة التصدّي، تدمير مطاري رامون ونيفاتيم العسكريين، وعدد من قواعد القوات الجويّة، فضلًا عن الأثر النفسي، الاقتصادي والاجتماعي داخل الكيان)، وقبل كلّ هذا إعلان أنّ الكيان المحتلّ ليس عصيًّا على الاستهداف والإصابة، ولو في رسالة لا حرب، وحاجته لحماية جماعيّة إقليميّة ودوليّة كي لا ينهار بالكامل، تمامًا كما احتاج لدعم أميركي أوروبي وعربي ليبقى على قيد الحياة ويستمر في إبادة الفلسطينيين.

الذي حدث في رأيي مهم ومؤسّس للقادم، لا بحسابات العسكرة التي لستُ أهلاً لخوضِ نقاشاتها التقنيّة، وإن كان صداها يصلُ إلى غير أهل التخصّص مثلي، لكنّه مهمٌّ لأنّه يقول بإمكان الفعل لو امتلك أحدٌ الإرادة للفعل. فما جرى، ليس منفصلاً عن السابع من أكتوبر، بل امتدادٌ لتفجّره المدوّي، وهل نحن الآن بحاجة لمراجعةِ الدور الإيراني، بعيدًا عن نيّاته، دعمًا، وتسليحًا، وتمويلاً، ومعلوماتٍ للمقاومة الفلسطينية؟ وهل هذا وقتٌ مناسبٌ للنقاش حول حصريّة التمثيل المقاوم ووجوب مراجعته من داخل معسكر المقاومة ذاته؟

أمّا المتفرّجون (اكتفاءً بدور التفرّج) الذين يصمتون عن إغلاق المعابر أو يبرّرونه، ويصمتون عن الممرّات البريّة والبحريّة لإنقاذ الصهاينة، ويصمتون عن تصدّي دفاعاتِ بلادهم للهجوم الإيراني حماية للعدو أو يروّجون له، الذين يعجزون عن إطعامِ طفلٍ غزّاويّ واحد أو إنقاذ جريحٍ واحد، ثم تنطلق ألسنتهم الآن تسفيهًا للهجوم الإيراني، الذي قال العدوّ نفسه إنّه "خطير وقاسٍ وغير مسبوق".

على أولئك أن يكفوا عن الوقاحة، للأبد.