عندما تتحوّل أجساد النساء إلى فضاء للمعركة

اغتصاب الفلسطينيات.. عندما تتحوّل أجساد النساء إلى فضاء للمعركة

29 فبراير 2024
+ الخط -

منذ أيامٍ قليلة أدلى فريق من الخبراء التابعين للأمم المتحدة بشهادتهم حول الانتهاكات الجنسية التي تتعرّض لها الفلسطينيات في مراكز الاعتقال التابعة لسلطة الاحتلال الصهيوني، والتي تجاوزت الإذلال الجنسي، والتجريد من الملابس، وتصوير الأجساد في وضعيات "مخجلة" وتنزيلها على الإنترنت، والتحرّش والتهديد بالاغتصاب إلى الاغتصاب الفعلي. وطالب أعضاء الفريق بفتح تحقيق في الغرض ليتحمّل الجناة مسؤوليتهم، موضّحين/ات أنّ بحوزتهم مجموعة من القرائن الدامغة التي تثبت اغتصاب امرأتين على الأقل.  

ومثلما هو متوقع من الإدارة الأميركية، قلّل الناطق الرسمي، ماتيو ميلر، من أهميّة هذا الادعاء ولم يأخذه مأخذ الجدّ، مؤكدًا أنّه لا يتسنّى له، في الوقت الحاضر، التثبّت من التقرير المقدّم. وذكّر بأنّ موقف الولايات المتحدة الأميركية هو بالطبع دعوة إسرائيل إلى الالتزام بالقانون الدولي. وفي المقابل، رأينا كيف تعامل أغلب السياسيين ووسائل الإعلام الغربية مع سردية اغتصاب رجال من "حماس" للإسرائيليات يوم 7 أكتوبر 2023، إذ تمّ بناء حملة دعائية للتنبيه إلى العمل الإرهابي وترويع العالم من "حماس"، دون أن يُبذل أدنى مجهود للتأكّد من صدقية مزاعم دولة الاحتلال، وهي التي تأسّس تاريخها على الأكاذيب والمغالطات. 

والواقع أنّ استعمال المحتل الصهيوني سلاح الاغتصاب لا يُعدّ أمرًا غريبًا، فمنذ سنة 1948 لجأ المستعمر إلى ممارسة الانتهاكات الجنسية لترويع السكّان وتهجيرهم عنوة، وصدرت مؤلفات عديدة تتضمن روايات شفوية وشهادات... وعلى مرّ السنوات السبعين، كان العنف الجنسي غير مفصول عن استراتيجيات الحرب الذي يشنّها المحتل على النساء والشابّات بعدما تحوّلن إلى أهداف مركزية. فعندما تصبح الفلسطينيات مقتنعات بتغيير مفهوم الجنسانية لتتحوّل إلى فعلٍ سياسي وحجّة للانخراط في المقاومة، يغدو وضع سياسات مجنسنة خطة من بين الخطط العسكرية للمستعمر. وعندما تتحدث الفلسطينيات عن مسؤوليتهن في الإنجاب و"ولادة الوطن"، والحفاظ على الهوية وحراسة القيم والحفاظ على "السردية" تتحوّل أجسادهن إلى فضاء لتصفية الحسابات مع الرجال.  

للاغتصاب اليوم، تاريخ، وهو غير مفصول عن أنظمة القهر والاضطهاد، وفي تقاطع مع الاستعمار والعرق والدين 

فأن يدنّس الجندي جسد المرأة، وهي رمز الأرض/ الشرف/ الوطن/ الهوية/ القومية وغيرها من الرموز المتنزلة في النسق الرمزي، معناه أنّه نجح في إذلال الرجل/ العربي، وإصابته بـ "العقم الرمزي"، وكسر شوكته وألحق به العار في ثقافة تُدين الضحية وتنبذها وتصمها اجتماعيا، بل تقتل النساء على خلفية الشرف، وللتخلّص من "العار"... 

ولمّا كان من الصعب توثيق حوادث الاغتصاب لصمتِ النساء بسبب خوفهن من النتائج المترتبة عن "البوح"، فقد أفلت المجرمون من العقاب ولم يشكّك الرأي العامّ العالمي في "ديمقراطية" دولة تُوهم الجميع بأنّها تحترم القانون. وهكذا واصل المحتلّ اعتماد الاغتصاب سلاحًا من الأسلحة العسكرية أثناء التحقيق لانتزاع الاعترافات، وفي فترة الاعتقال لتأديب المتمرّدات، مستغلًا الصور النمطية الخاصّة بالنساء وتمثلات الجسد الأنثوي لنزع المقاومة وإثناء النساء عن المشاركة السياسية. 

غير أنّ الشابات والنساء الفلسطينيات أصبحن قادرات على فهم دلالات الاغتصاب و"عري الأجساد" وتعذيب الأعضاء الجنسية، وغيرها من الممارسات. كما أنّهن أصبحن واعيات بضرورة الإخبار عمّا يجري في مراكز الاعتقال. فبعد "رسمية عودة" و"عائشة عودة" وأخريات كثيرات ما عادت الفلسطينيات يشعرن بالذلّ والعار... إنّهن يتكلّمن ويقدّمن شهاداتهن في مختلف وسائل الإعلام، ويكتبن سيرهنّ من موقع المواطنة والمساواة والمقاومة والمسؤولية و... فللاغتصاب اليوم، تاريخ، وهو غير مفصول عن أنظمة القهر والاضطهاد، وفي تقاطع مع الاستعمار والعرق والدين.

سواء، استُعمل العضو الذكري لاغتصاب السجينات أو العصا لافتضاض بكارة الشابات المعتقلات، فالأمر واحد

وما دامت "الدولة المارقة" تريد إبادة الفلسطينيين/ات بدعوى أنّ جميعهم إرهابيون/ات، فإنّها لا تجد حرجًا في استهداف النساء، فتصنفهن كأجساد تُستعمل لإهانة الرجال أمام العالم الذي تجرّد من إنسانيته، وفي الوقت ذاته، لإذلال العرب المسلمين، وهم الذين طبّعوا مع العنف بعد ما حدث في سجن أبو غريب، واغتصاب الرجال وإذلال الجنديات لهم، ومن النساء صنف الحوامل اللواتي تُبقر بطونهن حتى لا ينجبن جيلًا من "الإرهابيين"، ومنهنّ أيضًا المسنّات اللواتي لا بدّ أن يُمحّى ذكرهنّ فهنّ حارسات الرأسمال الثقافي والتاريخ والذاكرة... 

 ولئن أصرّت النسويات البيضاوات على ربط الاغتصاب بالنظام البطريركي(الأبوي) وببنى الهيمنة، فإنّ النسويات السوداوات، ونسويات الجنوب، وغيرهنّ أثبتن أنّ الاغتصاب مثله مثل الدبابة والخنجر والبندقية والقنبلة و... تكتيك حربيّ مقصود وممنهج يتعمّد المستعمر (المهيمن) توظيفه في الحرب حتى يحقّق أهدافه. وسواء، استُعمل العضو الذكري لاغتصاب السجينات أو العصا لافتضاض بكارة الشابات المعتقلات، فالأمر واحد. إنّه نظام يُعسكر الجنسانية بمعاضدة نسائه اللواتي يبرّرن ما يحدث بأنّ الاغتصاب ضريبة الحرب والمعارك. 

هذا النص جزء من مدونة "الجندر" التي تسلّط الضوء على قضايا المرأة والمساواة بين الجنسين.
آمال قرامي
آمال قرامي
أستاذة دراسات النوع الاجتماعي بالجامعة التونسية، ناشطة حقوقية وكاتبة.