ضيف السادسة صباحاً

ضيف السادسة صباحاً

23 مارس 2024
+ الخط -

جاء عبد الرحمان في ذلك الصباح الشتائي المرعد، وطرق الباب بقوةٍ، كما تفعل الشرطة تمامًا، حتى فتح له منعم الباب. كان قد وصل إلى الرباط الساعة الخامسة صباحًا، عبر حافلةٍ مخرخشة. دخن "نفسين" من الكيف داخل دفء القامرة، ثمّ استقلّ تاكسي أبيض كبيرًا، مقابل خمسة دراهم أوصله حتى صهريج توزيع المياه بحي التقدّم، ومن هناك انحدر عبر "شانطي" (شارع) دوّار الحاجة حتى نهايته تحت سيلٍ لم يتوقف من المطر.

السادسة صباحًا، وبضع دقائق طرق الباب. لم يسمعه أحد. أعاد الطرق بحذائه حتى استيقظ منعم مفزوعًا، ونهض من فراشه، ليتجه نحو الباب وهو يصرخ: من؟ من؟ ردّ عبد الرحمان: أنا عبد الرحمان افتح.

فتح له دون حتى أن ينظر إليه وعاد إلى فراشه. دخل عبد الرحمان والماء يقطّر منه. وضع حقيبته عند مدخل الصالون، وهي عبارة عن كيسٍ بلاستيكي أسود من الحجم الكبير. خلع معطفه الباهت وحذاءه ورزّته (عمامته). علّق المعطف فوق حافةِ نافذةِ المطبخ ليقطّر منه الماء وعصر رزته ثمّ أعادها إلى رأسه وهو يرتعش. اقتحم الصالون وجلس متأملًا قدميه على الإضاءة الشحيحة، وقد أصبحتا شبيهتين بفطيرتين معجّنتين بعد أن وصل إليهما المطر، داخل الحذاء دون جوارب.

لمح إبريقَ شاي فوق الطاولة الدائرية الصغيرة وصحنًا به بقايا حلوى الميلفاي. أفرغ لنفسه كأسًا وازدرد الحلوى، وحدّق يمينًا ويسارًا بتركيزٍ حتى ظهرت له "كاشة" (بطانية) صغيرة قام في اتجاهها، ثمّ سحبها وغطى بها قدميه. وبعد قليلٍ، أزال "الكاشة" وقصد معطفه عند النافذة. أخرج من جيبه السبسي (الغليون) ثم عاد وجلس وغطى قدميه من جديد، وملأ نفسًا دخنه وتجشّأ وارتشف من كأس الشاي، فشعر بالدفء. عاد وملأ نفسًا آخر. أشعله ودخنه بتلذّذ هذه المرّة حتى رأى برقًا يقتحم نوره البيت، وسمع رعدًا شديدًا ينفجر في السماء. أشعل شقفًا آخر، وآخر، وآخر، وملأ كأسًا أخرى، وفكر لو أنّه قصد المطبخ وسخّن الشاي حتى صعد منه البخار لكان ذلك أفضل، لكنه لم يفعل. بل أتى على الكأس باردةً، واضطجع فوق اللحاف، ثمّ سحب "الكاشة" فوقه حتى عنقه. تأمل قليًلا السقف في عتمةِ الصباح وصوت المطر يشتد، وسرعان ما أغمض عينيه ونام ليصل شخيره حتى غرفة منعم وغرفة الحاجة مينة والدة منعم، وغرفة غيثة وعيشة أختَي منعم، وغرف الجيران. وكان يوم أحد لا عمل فيه ولا دراسة، وقد وصلت رائحة الكيف أيضًا إلى أنوفِ ورئات وأدمغة كلّ أهل البيت، وكلّ ساكنة العالم. 

استيقظ ليكتشف أنّه لا يعرف منعم، ولا من حولَه، ولا أحد من سكان البيت الذي ينام فيه!

ومرّت الدقائق والساعات دافئةً، هادئةً، في ذلك الصباح الشتوي المرتخي، حتى العاشرة وخمس وعشرين دقيقة، حين استيقظت غيثة وقصدت الحمام، وهي تحك ظهرها وشعرها منفوش تبحث عن صندلها الذي شعرت به في قدميها كقطعتي ثلج. عبرت الصالون، ولم تلاحظ عبد الرحمان نائمًا هناك. دخلت إلى الحمام وأحدثت جلبةً أيقظت عيشة التي كانت قد أخذت كفايتها من النوم، فنهضت هي الأخرى قاصدةً الحمام، وهي ترتدي بيجامة قطنية سميكة. فكرت أن تجلس قليلًا فوق اللحاف، ريثما تنتهي غيثة، وحينها أبصرت عبد الرحمان مضطجعًا على اللحاف، فاتحًا فمه، فصرخت في نفسها محرّكة شفتيها: آ ويلي من هذا؟

تفرّست في ملامحه فوجدتها ملامح شخص غريب لم يسبق لها رؤيته، فهرعت راكضةً في اتجاه غيثة، مقتحمةً عليها الحمام. كانت غيثة قد أنهت غسل وجهها وأشياء أخرى وقد بدت لها ملامح عيشة، مخيفةً، مذهولةً، وهي تسألها: من ذلك الذي في الصالون؟ ردّت غيثة: من تقصدين؟ وعن أيّ صالون تتحدثين؟

أضافت عيشة: رجل نائم في الصالون! استغربت عيشة: آويلي أيّ رجل؟ قالت ثمّ هرولت في اتجاه الصالون، لتتفرّس في ملامح الرجل وتصرخ: منعيييم منعييييم... ثمّ ركضت في اتجاه غرفته، وتبعتها عيشة مرتعبةً، ليستيقظ منعم والحاجة مينة معه، كما استيقظ عبد الرحمان، واستيقظ الحي، وحدث هرجٌ ومرجٌ. قصد منعم الصالون  فوجد عبد الرحمان جالسًا يفرك عينيه والسبسي فوق الطاولة قرب إبريق الشاي. وهنا، اكتشف أنّه لا يعرفه، فصرخ في وجهه: من أنت وماذا تفعل هنا؟

اقترب منه مستنفرًا، مستعدًا لأيّ طارئ. أجاب عبد الرحمان وقد اكتشف أنّه لا يعرف منعم، ولا من حولَه، ولا البيت، ولا أيّ شيء: أليست دار الحاج محمد هذه؟

ردّ منعم بسخرية: بل دار الحاج احماد هذه، انهض من هنا وإلّا هشمت رأسك.

قام عبد الرحمان مرتبكًا، مصدومًا، محاولًا فهم ما يحصل: معك حق يا ولدي يبدو أنّي أخطأت العنوان، عذرا. قال واتجه بحذرٍ صوب النافذة، ومنعم يراقبه وهو على استعداد للكمه، فيما الفتاتان محتميتان خلفه. قذف معطفه فوق ظهره وحمل كيسه وقصد الباب أمام منعم، فيما عيشة وغيثة تقهقهان بصمت أولا، ثم أصبحت قهقات كبيرة، مسموعة بعد خروج الضيف الغريب، بينما الحاجة مينة خرجت من غرفتها متأخرة، تسأل: ماذا دهاكم؟ ما هذه الجلبة؟  فقهقهتا أكثر. 

أغلق منعم الباب، وعاد فاكتشف أنّ عبد الرحمان قد نسي غليونه، فانخرط في موجةِ عطاس أضحكت غيثة وعيشة أكثر. أمّا الحاجة مينة، فقالت: لماذا لم تتركوا الضيف يفطر معنا؟

دلالات

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.