السينما... كوّة مشرعة للفرح والأمل

السينما... كوّة مشرعة للفرح والأمل

24 فبراير 2024
+ الخط -

ذكرني نشاط قرائي، خلال جلسة مسائية جمعتني بابني الصغير من أجل مراجعة دروسه المدرسية، بجلسات الأسرة، مساء يوم الثلاثاء من كلّ أسبوع، لمشاهدة الأفلام السينمائية الغربية، والتي كانت تبثّها إحدى القناتين الوطنيتين خلال تسعينيات القرن الماضي.

 قبل موعد بثّ الفيلم، يظهر الجميع كما لو أنّ الأمر حدث بضربة ساحر. نتناول ما تيّسر من عشاءٍ متقشفٍ تعدّه الوالدة على مضض بعد يوم طويل من "الشقا" (الأعباء المنزلية)، ثم فجأة يتوّقف الزمن. يتسمر كلّ واحد، أمي وعصابة الأشقاء، في مكانه المعتاد المخصوص المعلوم لدى الجميع. تُطفأ أضواء الشقة جميعها، ويعم الصمت، صمتٌ حادٌ كشفرةِ حلاقة، مع ظهور شعار شركة الإنتاج على شاشة التلفاز: كولومبيا بيكتشرز، وارنر برذرز، باراماونت بيكتشرز، مترو غولدوين ماير، سنتري فوكس... 

الأفلام الأميركية المدبلجة إلى الفرنسية وغياب الترجمة الحرفية إلى اللغة العربية كانت تدفعنا في البداية إلى طلب معونة الأم المتعلّمة تعليمًا بسيطًا، لفك طلاسم لغة غريبة لا نسمعها إلا على شاشة التلفاز، قبل أن نتمكن من إتقانها، أو على الأقل، أصبحنا قادرين على فهم الحوارات التي تدور بين أبطالها.

ومع توالي السنوات، تغيّرت الأفلام التي كنّا نفضّل، من أفلام الويسترن والعصابات والمغامرات.. إلى أفلام الشباب والأفلام الرومانسية، مع فورة المراهقة والشباب. أفلام تحكي قصص الحب والفراق والوصال. 

كان التلفاز يفتح لنا عنوةً، كوّة فرح في واقعنا المرير الذي نتجرّع مرارته في عيون الناس، وفي نظرات الاحتقار التي يرموننا بها كلّما حاذينا أحدهم

كانت تلك المساءات فاصلًا زمنيًا قصيرًا يُمكنّنا من الهرب من واقعنا البائس في منزلنا المتهالك، الذي عشنا فيه فترة طويلة من الزمن، وهو عبارة عن شقة معلّقة كعشِ لقلقٍ في أعلى عمارة ذَهبَ الزمن والإهمال بتاريخها التليد. 

ورغم حالة الفقر المادي الذي عشناه، كان التلفاز يفتح لنا، عنوةً، كوّة فرح في واقعنا المرير الذي نتجرّع مرارته في عيون الناس (وبالنسبة لي أكثر في عيون الفتيات)، وفي نظرات الاحتقار التي يرموننا بها، كلّما حاذينا أحدهم. فأنا شاب فقير ينتقل من حيّه الفقير إلى المدرسة الثانوية الموجودة في أرقى أحياء المدينة. وفي هذا الانتقال، أمرّ في طريقي على الفلل وارفة الظلال والشوارع النظيفة وأناس لا يشبهونني، وتبدو على ملامحهم وثيابهم مظاهر الرفاه والرخاء والأبّهة. 

وفي نهاية الطريق، ألج إلى الثانوية حيث يجاورنا أبناء الطبقات الميسورة، قبل أن تتفشّى آفة المدارس الخاصة. يحضر هؤلاء إلى المدرسة بدراجات السكوتر، أو برفقة آبائهم على متن السيارات، أما أنا فتقودني قدماي إلى المدرسة منتعلًا أحذية مستعملة، يشتريها أبي من الجوطية أو من سوق "العفاريت"، أشهر أسواق المتلاشيات (القديمة والمستعملة) في المدينة.

تبدو هذه الذكريات الآن كما لو أنّها تعود إلى زمنٍ بعيد، كما لو أنّني أراها على شاشة تلفاز، كما لو أنّ بطلها شخص آخر غيري، وما يجمع بينهما تحقق أحلام راوّدتني مدّة طويلة، وكنت أحلم خلالها بمستقبل أفضل وحياة رغيدة، بإيعازٍ من شاشة التلفاز. ولم تخذلني تلك الشاشة الصغيرة التي علمتني أنّ من حق الجميع أن يحلم، أن نحلم أحلاماً كبيرة، ويومًا ما ستصير حقيقة ماثلة بين أيدينا، وها هي اليوم صارت كذلك.