أثر الفراشة

أثر الفراشة

19 ابريل 2024
+ الخط -

أحاولُ النهوض إلى اليومِ الجديد، فيأبى جسدي المتثاقل أن يطاوعني. يهمسُ بتعبٍ: اصبري قليلًا بعد، لنبق هنا ولا نذهب إلى عالمِ اليقظة. لدينا كلّ النهار لنستدرك ما فاتنا من بشاعةِ العالم خلال الليل. حتى أنّه ليس علينا أن نفعل. هل نحن بحاجة لذلك؟ ليس بعد. هيا اتركينا لمزيدٍ من الطفو بين عالمين. مستلقيين هكذا على السرير، ننظرُ إلى عريشةِ الشرفة التي أزهرت للتو أطباقاً من الورود الصفراء تشف عنها غلالة ستائر غرفة النوم، وتلاعبها أشعة الشمس المستيقظة مثلنا للتو. فلننم قليلًا بعد، وإن كانت إغفاءة مزيّفة، لا يدرك زيفها سوانا، أنا وأنت. 

أحاول النهوض دون اقتناعٍ حقيقي. أماطل وجسدي يستفيد من ذلك الخوف من المواجهة، يقاوم قليلاً لكنه يعلم، وأنا أيضاً أنّه في النهاية لا مفر. هيا قم، أقول له، لا تغمض عينيك متظاهراً بالغفو. هذي أنا. انهض فلا مفرّ من تفقدِ ما جرى لعائلتنا، لأصحابنا، لأبرياء خلف الشاشة، لا ذنب لهم إلّا أنّهم ولدوا في الجهةِ الأضعف من هذا العالم الذي تحتضر إنسانيته بأبشعِ الصور.

أجرُّ قدمي من السرير إلى المطبخ دون أن أغسل وجهي حتى. قهوة، مزيد من القهوة. يا للرائحة السحرية. لا بأس أيضا ببعض العسل. لن أَخاف من زيادة الوزن، فتثاقلي في الصباح لا علاقة له بالكيلوغرامات الخمسة الزائدة التي أصبح التخلّص منها مع العمر، ومع تسمّري على الكنبة أمام الشاشات آناء الليل وأطراف النهار، عسيراً. الثقل هنا، في القلب. غيمةٌ من ضبابٍ رمادي أشعر أنّها تُحيط به.

عطلة العيد الطويلة التي كانت مصدر سرور عندما كنت أعمل بدوامٍ مكتبي كامل، لم أعدْ أستمتع بها منذ مغادرتي الجريدة. صارت الأيام متشابهة. كنت أتندر بالقول إنّي لم أعد أستمتع بها لأنّها غير مدفوعة الأجر. لكنّها في الحقيقة كانت مملّة. كنت أحبّ العمل أكثر. أمّا الآن؟ فها هي تنزل بردًا وسلاماً على كينونتي بكاملها. هي هدنة.

الثقل هنا، في القلب. غيمةٌ من ضبابٍ رمادي أشعر أنّها تُحيط به

الهدوء الذي حلّ على الحي الصاخب الذي أسكنه، خفّف ضجيج النهار عن أذني المتعبتين من مجرّد السمع: الأخبار عاجلها وآجلها، دوي الصواريخ، بيانات دعم القاتل، وقاحة المجرم. أربعة أيام من السكينة تسيل على الحي ببطءٍ يتمطّى كانسكابِ العسل. الجيران الصاخبون عادوا إلى قراهم للأعياد، يا للراحة، ومواقف السيارات الثلاثة التي تحاصر منزلي بالسيارات والغاضبين من السائقين الذين لم يجدوا مكاناً لركنِ سياراتهم، ها هي فارغة تماماً. يبدو لي إسفلتها الباهت كما لو كنت أراه للمرّة الأولى. غياب السيارات في عطلتها القروية سمح في هذا الصباح الربيعي لرائحة أشجار الليمون المزهرة على أطراف "الباركينغ" بالطفو في الهواء. تقترب مني رويدًا رويداً. "تعالي"، أقول لها مبتسمة، وأنا أرتشف قهوتي واقفة هكذا. كم هي كريمة هذه الأشجار. ما إن تقطف ثمارها حتى تزهر مجدّداً. وفي الليل، حين أقف في شرفتي المطلّة عليها، أرى كما لو أنّ ثمارها البرتقالية تضيء اخضرار أوراقها، كشجرةِ عيد ميلادٍ دائمة.

أحاول تفادي الأفكار المظلمة التي تنبعث من وعيي ولا وعيي، سواء بسواء. لا أجد مفرّاً طالما أن ما يحصل، لا يزال يحصل كما لو أنّه لا يحصل. يوميات عادية مع أنّها غير طبيعية. 

يُوجعني كلّ شيءٍ منذ شهور. عقلي، قلبي، جسدي وروحي. يهاجمني العنف من كلِّ بابٍ أو كوّة تصلني بالعالم: من الهاتف، من التلفزيون بقنواته التي تفوق الآلاف، من الجريدة التي تصل إلي كلّ يوم. من الزوّار، من الجيران، من مسؤول موقف السيارات المصرّ على سؤالي كلّما مررت عن "الوضع" واحتمالات الحرب. صرت أتخوّف من فتح بابي في الصباح للمّ الجريدة الملقاة أمامه، تحاول عيناي تفادي العناوين العريضة التي خُصِّصت للحدث المستمر منذ 194 يوماً، كما لو أنّ اكتشاف العنوان بالتدريج سيقَسط وقع الخبر السيئ. أكاد أفتح الباب بحذرٍ وأنظر متوّجسة كما نفعل لزائرٍ مريب.

نحن في كوكبٍ واحد، فقاعة واحدة. أيُّ شيءٍ نفعله يؤثر في كلِّ ما هو موجود داخل الفقاعة

بعد جرعةِ أخبار الجريدة المحلية التافهة والخطيرة والدولية البشعة والمهينة، أتريّث قليلًا للهضم. آه. صحيح. فلأهرب إلى الطبخ. هناك طبق مغاربي أطهوه مرّة في السنة لبعضِ الأصدقاء، هذا موسم خضاره. أدعوهم إلى الغداء فتأتي هاجر وحدها. معظم أصدقائي صحافيون. الجميع مشغول بساعات عملٍ إضافية ومنهكة. الإرهاق فوق القلق والحزن والغضب والإحساس اليومي بالإهانة. يا له من كوكتيل سام نتجرّعه يومياً منذ شهور. 

تقول هاجر إنّ ما بي من تعبٍ وكآبة وغضبٍ مكبوت، بها، وبالناس جميعاً. أتذكر تعبير "أثر الفراشة". صحيح. نحن في كوكبٍ واحد، فقاعة واحدة. أيُّ شيءٍ نفعله يؤثر في كلِّ ما هو موجود داخل الفقاعة. فإنْ كان العالم، كما تقول هذه النظرية، قد تختلف مساراته بسبب حتى رفة جناح فراشة، فما الذي فعله بنا، وبالبشر جميعاً، ولا يزال، كلُّ هذا العنف الفاجر الذي نتلقاه وأهل فلسطين على مدار الساعة، منذ سبعة شهور تقريباً، وبجرعاتٍ مختلفة في بقية الكوكب؟ 

لسنا وحدنا، صحيح. العالم كلّه يتلقى هذا العنف المُهين بعجزنا عن إيقافه. بعض الناس، عكس أهل منطقتنا، يتلقونه للمرّة الأولى عارياً بهذا الشكل. أراهم في بلدانهم البعيدة، في فيديوهات مؤثرة، لا يتمالكون أنفسهم من ذرف الدموع تأثراً بما يحصل ويطعنهم في إنسانيتهم. أراهم للمرّة الأولى يتماهون مع أوجاع الجد الفلسطيني، والأم الفلسطينية، والطفل الفلسطيني، أراهم للمرّة الأولى يفهمون أنّ ما يحصل هو معركة تحرّر من غاصبٍ متنكّرٍ، بلبوسِ الضحية. 

يُخفّف غضبهم، لا بل وجودهم بذاته، عنّي. يمدّني بقوةٍ جديدة. فالعالم ليس فقط أولئك المتواطئين مع القتلة. العالم أيضاً هؤلاء، وإخوتنا في الإنسانية. 

غداً سأنهض خفيفةً. ما زال هناك أمل. هذا أيضاً من أثر الفراشة.