الفتنة الانقلابيّة في مصر

17 ابريل 2014

شيخ الأزهر شريك في مشهد 3 يوليو تموز 2013

+ الخط -
موضوعاتٌ كثيرة تُطرح في ملفاتٍ تتعلّق بدراسة الظواهر السياسية، يحار المرء في تناولها، خصوصاً في مقالاتٍ يمكن أن نكتبها كل أسبوع، منها ملفان مهمان: أحدهما عن علاقة الديني بالسياسي، وثانيهما يتعلق بالمقارنة بين علماء السلطان وسلطان العلماء. ويعبّر الملفان عن اهتمام ممتدّ للدارس والباحث في حقل العلوم السياسية، لكن الأخطر أن يولّدا ملفاً ثالثاً، يتعلق بالظهير الديني للانقلاب العسكري في مصر، وما أنتجته الحالة الانقلابية من خطاب دينيٍّ لافتٍ للنظر، يُعبّر عن حالةٍ من "الفجاجةِ" في توظيف الدين واستغلاله لأغراضٍ تتعلق بتمكين سلطات الاستبداد وشبكات الفساد، على نحو سافرٍ، يكشف عن أساليب خطيرة في بناء العلاقة الفرعونية السياسية، يقوم بها علماء دين ومنتمون إلى دائرة الحركة الإسلامية، بل وبعض هؤلاء يوجهون هذا الخطاب لخدمة مصالحهم وتحالفاتهم.
يستأهل الأمر منّا أن نتوقف عند أمورٍ خطيرة، ومشاهد مريبةٍ يقوم بها علماء السلطان في اختيارهم ومواقفهم، خصوصاً عندما تكون هناك حالة انقلابية طاحنة وضاغطة، فينحاز هؤلاء لأهل السلطان وصناعة فرعون جديد، ويتركون الأمة والمجتمع في مهب الريح، أَو على أفضل تقدير، يوصي هؤلاء بأن يتقبّل ويقبل الناس بكل ما من شأنه أن يقرّ الأمر الواقع، وفق دعواهم، طلباً للأمن والاستقرار ودرءاً للفوضى والفتنة. خطاب خطير من هؤلاء الذين يجب أن تكون أعينهم على الأمة، لا على السلطة، وعلى الحرية دون الاستبداد.
نحن أمام مشاهد في مصر يجب أن نتوقف عندها، حينما يشارك بعضهم في المشهد الانقلابي، يقع على رأس أهم مؤسسةٍ دينيةٍ رسمية في البلاد، يتخطى دورها الظروف الحاضرة إلى ذاكرة التاريخ، لتقوم بدورٍ وطنيٍّ، كانت دائماً فيه هذه المؤسسة مع الأمة، في حركتها وفي مقاومتها وفي ثورتها، وتمتد أدوارها عبر المكان لتقدم رؤية مرجعيةٍ، سواءً في التعليم الديني في جامعة الأزهر، أو عبر امتدادات أدوارها إلى دول إسلامية كثيرة. هذا الوزن العظيم لمؤسسةٍ جليلةٍ تستحق من كل مَن "يقع" على رأسها أن يتحسَّب لكل كلمةٍ، وكل موقفٍ، وكل سلوكٍ، حتى لا يُستغلَّ في مصلحة سلطةٍ باطشةٍ، أو تسويغ استعبادٍ واستبدادٍ أو طغيان.
الموقع الطبيعي لمؤسسةٍ كالأزهر هو أن تنحاز إلى مصالح الأمة الكبرى، المُعتَبرة، التي تتعلّق بمناطات نهوضها وصلاحها. أما أن تظهر قياداتها في مشهدٍ انقلابيٍّ يقطع الطريق على مسار ديموقراطيٍّ حقيقيٍّ، فهذا ممّا لا يحسن أن تدخل فيه، أو تبرّر له، أو تنخرط في مساره. وعلى هذه القاعدة، فإن الحديث عن ارتكاب أخف الضررين في هذا الشأن، تلك المقولة الذهبية والقاعدة الكلية لتسويغ موقف الأزهر بالمشاركة في مشهد الثالث من يوليو/ تموز الماضي في مصر، والذي دشن حالةً انقلابيةً واسعةً ومنظومةً انقلابيةً باطشة، خطأ عظيم، لا يمكن للأمة أن تغفره، أو تقبله.
 إذا أردت أن تتحدث عن القواعد التي تتعلق بالضرر، وجب أن تتدبّر معناها، في ظل منظومة كليةٍ، لا تُجتزأ منها القاعدة، وتقدّر من غير ميزان، ذلك أنه إذا كان للمصلحة ميزان، فللضرر ميزان. وصحيحٌ أن الضرر مقدّم على جلب المصلحة، إلا أن هذه المنظومة الفاعلة والمتفاعلة إنما تقوم على خمس قواعد، لا يمكن بأي حال أن نتجاهل تراكبها وتراتبها؛ لا ضرر ولا ضرار، الضرر يُزال، الضرر لا يُزال بالضرر، ارتكاب أخف الضررين، لا يُصار إلى دفع الضرر بالأعلى، إذا دُفع بالأدنى. فضلاً عن ذلك، هناك قواعد تتعلق بالمفاسد والمصالح، إن تداخلتا، وبمنظومة قواعد الضرورة، إن دخلت على منظومة الضرر. لست أتعسّف في هذا المقام، ولكن علم الواقع السياسي، وصفاً وفقهاً، يفرض أصولاً يجب أن تُراعى، وهي لا تختلف، في هذا السياق، مع واجباتٍ شرعيةٍ، يجب أَن تشكل أصولاً مرجعية، فلا نسلّم لكل مَن يدّعي أَنَّ ذلك "أخف ضررين" لحالةٍ انقلابيةٍ، تقطع الطريق على رئيسٍ مدني منتخب. مَن يمكنه أَن يقول ذلك، أو يقرّه، ولم يستوف الشروط اللازمة، والقواعد الواضحة، لمنظومة الضرر وموازينها؟

ومن العجيب أن يتطرَّق بعضهم إلى فتاوى تتعلق بالدماء والأرواح والنفوس، فتصدر مستهينةً بكل التزام أو حدّ، وتجعل من حرمه النفس في أعظم مقام ومكانٍ في منظومة الشريعة وممارسات الواقع، على قاعدة التحرّز في النفوس، أَذىً أَو إزهاقاً.  والحال هذه، لا تصحُّ الاستهانة، أو الاستسهال في النفوس، فيُفتى بالشبهة أو بالهوى. كيف يمكن أَن يشرّع أي مفتٍ في إراقة الدماء وإزهاق النفوس، بعد فائض أوصافٍ من مثل اعتبارهم خوارج، أَو أَن رائحتهم نتنة. إن ذلك لشيء عجاب! يستهين فيه مَن يُوقِّع إعلاماً عن رب العالمين، فإذا به يستخف ويستهين.
هذه الأمور التي تتعلق بالفتوى، وفي سياق المسؤولية الكبرى "أَجرأكم على الفُتيا أَجرأكم على النار"، إنما تؤكد استشعار المسؤولية الخطيرة التي افتقدها بعضهم، حينما تطرقوا إلى شأنٍ سياسيٍّ، فإذا بهم يحركون المسألة إلى مناطق الوصف المُجرّم والمحرّم، ويحاولون من كل طريق أَن يجدوا لمَن يقوم بالقتل، أو كان من أدواته، أن يبادر بالقتل بلا هوادة: "اقتلوهم"، وأن يجعلوهم عبرةً لمَن لا يعتبر. هل يمكن، بذلك، أن نقول إن تلك من فتاوى الأمة التي تحفظ عصمتها، وهي من عصمة دماءِ أبنائها، أَم أننا نترخّص في الدماء تسويغاً لسلطةٍ أو سلطانٍ، تجور في كل ممارساتها على حقوق إنسان، وعلى مجمل الكيان، وعلى مادة العمران؟
ولعمري، يناقض هؤلاء، الذين يستسهلون الفتوى أو يستهينون في الدماء، أنفسهم، حينما يبررون لسلطات الاستبداد أكثر من مرة: تارة للرئيس المخلوع، وتارة للانقلاب المصنوع، بالتعامل مع حال الفتنة التي نشبت عليه بالقوة الباطشة مبرراً، بل ومزوّراً أنه من حقه مواجهتها (بالقتل)، بدعاوى أوهى ما تكون، ويسوّغون الخروج على الحاكم الشرعي، ويبررون لكل حاكم ظالم بهذه الفتاوى الملوّنة المنغمسة في دماء الناس، تنفيذاً لرغبة الفرعون وماله من أعوان، وتمرير استبداد السلطان في الظلم والطغيان وإقراره.
مؤسستا الأزهر والفتوى يجب أن تستشعرا كل مناطق المسؤولية والالتزام والمساءلة التي تتعلق بمكانة مؤسساتٍ عريقةٍ، كمؤسسة الأزهر ومؤسسة الفتوى التي تقوم بمهام جليلة، هي التوقيع عن رب العالمين. إنها مسؤولية تتعلق بتمكن مفهوم الأمة في روح مؤسسة الأزهر وقلب مؤسسة الفتوى، فتضع كل تلك المعاني نصب أعينها، أو تضيعها إذا ما اتجهت إلى السلطة على حساب الأمة أمناً وأماناً؛ فأمن الأمة من أمان أبنائها، لا يمكن بحال التفريط فيه، خصوصاً إنْ تعلّق الأمر بظلم ظالم، أو استباحة دماء وأنفس. هؤلاء من "علماء السلطان" الذين انطلقوا بعد ثورة 25 يناير، فكانوا من فقهاء الفتنة. قالوا: إنها الفتنة! على هؤلاء أَن يعلموا أَنهم، بأفعالهم وكلامهم وخطابهم وسكوتهم وكتمانهم، سقطوا في الفتنة من أوسع أبوابها، "ألا في الفتنة سقطوا".
 
 

 
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".