ليست القصيدة عند شاعر العامية المغربي مراد القادري (1965) كلماتٍ تساق من القاموس إلى مخبر الشاعر، ليقول من خلالها ما يريد، بل هي ما فلت من القاموس إلى برية الشك، ليكتب عري الذات، ويضبطه على الحيرة والسؤال.
فالصراع، بحسبه، بين فعلَي "قال/ أنشد" و"كتب"، في الثقافة العربية، سياسي بالدرجة الأولى؛ إذ ترفض المنظومات المهيمنة في صناعة المعنى أن تتخلى عن ثقافة الإنشاد في الشعر: "يْعْجبْنِي لْكلامْ اللِّي جَايْ مْ الهَاوِيَة/ الْوَاقَفْ عْ الحَافَة، اللِّي بْلاَ تَاريخْ، اللِّي ورَاقُو بيضَا، المكتوبْ بْلا مْدادْ".
هذا الكلام الذي يعجبه، ليس هو الشعر، بل مادته الخام. الشعر يتجاوز الكلام إلى البياض الذي يمنح النصَّ قدرته على إعادة تسمية الأشياء، وتأثيثها من جديد، داخل منظومة تتوق إلى الانسجام: "فْ صْـفَحتُو يَرْسَـمْ شَمْسْ وْسبُولَة/ يْحَط نُوَّارْ وبَقُّولَة، ويْقـُولْ لْ صْحابو: باسْمِ الله، ب اسْمِي أنَا، أعـُوذُ بْ اسْمِي مِنْ قَوْلة أنَا".
الاستعاذة من الذات، في نظره، هي استبعاد للقصيدة؛ لأنها منطلقها ومداها، ولا يبقى أمام الشعر، حين يخسر مجال الذات، إلا مجال القبيلة المدجج بالمساطر والاشتراطات، حيث يخسر مصداقيته من المنظور الجمالي، ويتحول إلى قوالب معدة سلفاً لاستيعاب المعاني الجاهزة.
منذ ديوانه الأول "حروف الكف" (1995)، تبنّى القادري مفهوماً خاصاً للالتزام الشعري، لا يورّط القصيدة في التعبير السياسي المباشر. هكذا، يلتفت صاحب ديوان "طير الله" إلى الأشياء الصغيرة في حياته، حتى تتحول إلى بؤر للانتباه. يفقد الإنسان، بحسبه، فوائدَ/ ملذاتٍ كثيرة حين يبرمج انتباهاته على القضايا الكبرى فقط، بل يقع في الاستلاب باسم مشاركة الجماعة: "حَطْ وذْنيكْ عْ البَابْ ما تَسْمعْ غِيرْ دَقَّاتْ قلْبَكْ".
سفينة محطّمة على شاطئ مهجور أهمّ عنده من أسطول على قيد الإبحار، وحجر يلقيه طفل صغير في البحيرة أهم من قمر يهيمن على صفحة السماء وعيون العشاق. هذه النزعة الإنسانية مكّنت نصوصه، رغم كونها مكتوبة بلغة محكية مغربية، من السفر إلى الفرنسية والإنجليزية والإيطالية، ووجد المستعرب فرانسيسكو موسكوسو غارسيا، في ديوان "غزيل البنات" (2005) روحاً أندلسية، فترجمه إلى الإسبانية.
يتموقع القادري في مقام لغوي يحافظ فيه على خصوصيات القاموس الشعبي المغربي، من غير أن يحشر نصه في زاوية تلقٍّ محدودة، بالموازاة مع التقاط هذه اللغة وفق تقنيات الكتابة الشعرية المعاصرة، التي تميل إلى جماليات السرد. هكذا، ثمة حكاية دائماً في نصه.
بقدر ما يحافظ نص القادري على خصوصيته ورؤيته، بقدر ما يطرح نفسه ثمرة للتراكم الجمالي الذي تتميز به المدونة الزجلية المغربية، التي دخلت بوعي عميق إلى أقاليم شعرية جديدة، بعيداً عن العقدة من فتوحات النص الفصيح، ومن الصمت غير المبرر للناقد العربي.