شهداء الكلمة في فلسطين

شهداء الكلمة في فلسطين

29 مارس 2017
باسل الأعرج/ معتصم خليل (الفيسبوك)
+ الخط -
"تحية إلى العروبة والوطن والتحرير، أما بعد..
إن كنت تقرأ هذا فهذا يعني أنّي قد مت، وقد صعدت الروح إلى خالقها، وأدعو الله أن ألاقيه بقلبٍ سليم مقبل غير مدبر بإخلاص بلا ذرة رياء، لكم من الصعب أن تكتب وصيتك، ومنذ سنين انقضت وأنا أتأمل كل وصايا الشهداء التي كتبوها، لطالما حيرتني تلك الوصايا، مختصرة سريعة مختزلة فاقدة للبلاغة ولا تشفي غليلنا في البحث عن أسئلة الشهادة.
وأنا الآن أسير إلى حتفي راضياً مقتنعاً وجدت أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد، وكان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهور طويلة إلا أن ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء فلماذا أجيب أنا عنكم فلتبحثوا أنتم أما نحن أهل القبور لا نبحث إلا عن رحمة الله".

كانت تلك الكلمات المقتضبة هي وصية باسل الأعرج الذي اغتالته قوات الاحتلال الصهيوني فجر الإثنين السادس من آذار/ مارس الجاري.

القوات المهاجمة كانت تظن أن اعتقال شاب ثلاثيني مفرج عنه حديثا من سجون السلطة الفلسطينية أمر يسير، خاصة أن نشاطه المحموم كان يقتصر على العمل العام والتدوين وتثقيف الشباب بتاريخ المقاومة الفلسطينية والدعوة إلى مقاطعة الاحتلال، لكنه فاجأهم بوابل من الرصاص من سلاحه الرشاش في اشتباك انتهى باقتحام المكان الذي تحصّن فيه واستشهاده.


كان باسل يؤمن بفكرة اتحاد القلم والبندقية في مواجهة الاحتلال وكانت من أشهر عباراته: "إذا أردت أن تكون مثقفًا دون أن تشتبك، فأنت لست مثقفًا"، فالرصاصات التي أطلقها سلاح الأعرج قبيل استشهاده قد سبقتها رصاصات أخرى أطلقها قلمه استفزت قوات الاحتلال الصهيوني كثيرًا وجعلته هدفًا مهمًا لهم وللسلطة الفلسطينية كذلك، والتي اعتقلته في 2016 وأودعته سجن "بيتونيا" حيث تعرض لتعذيب شديد كاد أن يؤدي إلى وفاته أكثر من مرة - بحسب والدته - ثم صار مطاردًا من قبل مخابرات الاحتلال بعد إطلاق سراحه من سجون السلطة.

باسل الأعرج لم يكن المثقف الفلسطيني الوحيد الذي وضعت حياته على المحك بسبب أفكاره ونضاله الثقافي في مواجهة قوات احتلال لا تعرف إلا لغة الرصاص؛ فتاريخ النضال الفلسطيني زاخر بمثل تلك النماذج التي قاومت الاحتلال بالفكر قبل السلاح؛ فكانت أرواحهم ثمنًا لما يؤمنون به، حين أذاب لهيب المقاومة الفروق الأيديولوجية بينهم وصارت قضية الأرض والحرية والكرامة هي شغلهم الشاغل ومناط نضالهم وتضحياتهم.

ناجي العلي
"اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت".
كان رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي يدرك جيدًا أن رسوماته التي بدأها صبيًا لم يتجاوز الخامسة عشرة على جدران زنزانته الضيقة في أحد سجون الاحتلال الإسرائيلي بعد أن اعتُقل من مخيم "عين الحلوة" بجنوب لبنان الذي انتقل إليه مهاجرًا من قرية "الشجرة" الواقعة بين طبريا والناصرة بعد نكبة 1948، سيكون ثمنها حياته يومًا ما.

اكتشف الروائي الفلسطيني غسان كنفاني موهبة العلي في الرسم الكاريكاتيري ونشر أول رسوماته في مجلة الحرية اللبنانية، والتي كانت عبارة عن خيمة تعلوها يد تلوح تعبيرًا عن معاناة اللاجئين الفلسطينيين، انتقل بعدها إلى الكويت للعمل في جريدة "الطليعة" ثم "السياسة" فـ "القبس".

شخصية الطفل، "حنظلة"، والتي كانت تعبر عن ناجي العلي نفسه حين طُرد من قريته وهو لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، كانت هي الأشهر من بين الشخصيات التي رسمها بعد 1973. كانت لطفل فلسطيني رث الثياب حافي القدمين أشعث الشعر موليًا ظهره دائمًا للمشاهدين، تعبيرًا عن رفضه وغضبه من التخاذل العربي أمام القضية الفلسطينية. وعندما سئل العلي متى سيشاهد الناس وجه "حنظلة" قال: "عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته".

استشهد ناجي العلي بتاريخ 28/8/1987، متأثرًا برصاصة أطلقت عليه بتاريخ 22/7/1987 في أحد شوارع لندن التي انتقل إليها ليعمل في مكتب جريدة "القبس"، بعد أن غادر مقرّها في الكويت. تشير أصابع الاتهام إلى جهاز الموساد الإسرائيلي الذي اعتاد أن ينفذ عمليات اغتيال متعددة لناشطين فلسطينيين في الخارج، كذلك اتُّهمت أيضًا بعض الأنظمة العربية بالضلوع في تلك الجريمة؛ إذ كانت بعض رسومات العلي التي تخطت الأربعين ألفًا تطاولهم بالسخرية اللاذعة حين تصورهم كأشخاص بمؤخرات ضخمة عارية، بلا أرجل، تعبيرًا عن تخاذلهم وضعف مواقفهم في ما يخص القضية الفلسطينية.

أحمد ياسين
كان تقريبًا في نفس عمر العلي عندما هجر من قريته "الجورة" التي تقع جنوب قطاع غزة إلى القطاع نفسه بعد نكبة 1948. أصيب أحمد ياسين في شبابه بحادث أثناء ممارسته رياضة المصارعة مع أحد أصدقائه أدّت إلى كسر في عنقه تطوّر إلى شلل رباعي كامل. لم يمنعه ذلك العجز من استكمال دراسته الثانوية ثم دراسته العلوم الإسلامية في جامعة الأزهر ثم عمله كمدرس للغة العربية والإسلامية في إحدى مدارس غزة؛ حيث كان يذهب أغلب دخله لإعاشة أسرته التي فقدت عائلها منذ أن كان ياسين طفلًا في الخامسة.

الشلل الذي أصاب جسد الشيخ الشاب لم يتمكن من عقله ولسانه اللذين سخرهما لمقاومة الاحتلال من على منابر قطاع غزة، حين برزت قدراته الخطابية في حشد الجماهير إلى مظاهرات منددة بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ورفض الإدارة الدولية لقطاع غزة وعودتها للإدارة المصرية مرة أخرى، وحين عادت غزة بالفعل تحت مظلة الإدارة المصرية المناهضة لجماعة الإخوان المسلمين حينها، جرى اعتقال أحمد ياسين عام 1965 بتهمة اعتناقه أفكار الجماعة وظل حبيس زنزانته الانفرادية لمدة شهر من دون مراعاة حالته الصحية الحرجة.

وكان ياسين يقول عن تلك الفترة إنها "عمقت في نفسي كراهية الظلم، وأكدت فترة الاعتقال أن شرعية أي سلطة تقوم على العدل وإيمانها بحق الإنسان في الحياة بحرية".

لم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي تعرض فيها الشيخ القعيد للاعتقال، فاعتقل عام 1989 إثر تصاعد الانتفاضة ضد الاحتلال وازدياد وتيرة قتل الجنود الصهاينة التي كان لحركة "حماس" التي أسسها الشيخ عام 1987 نصيب كبير فيها، وأُعيد اعتقاله عام 1991 وحكم عليه بالسجن مدى الحياة، لكن تم الإفراج عنه في صفقة لتبادل الأسرى مع السلطات الأردنية إثر المحاولة الفاشلة لاغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل في عمّان.

في فجر يوم 22 مارس/ آذار 2004 كانت المروحيات الإسرائيلة تحلّق بكثافة في سماء غزة وتترقب خروج الشيخ بصحبة مرافقيه من مسجد المجمع الإسلامي في حي "الصبرة"، وما إن أطل الكرسي المتحرك الذي يحمل جسد الشيخ القعيد المنهك بالأمراض من أثر الاعتقال، حتى باغتته ثلاثة صواريخ أحالت جسده إلى أشلاء وقتلت كذلك سبعة من مرافقيه.

غسان كنفاني
خزانة الروائي الزاخرة دائمًا بأحداث رآها بعينيه، كانت تحوي الكثير من المشاهد والخبرات المؤلمة عاشها غسان كنفاني بنفسه منذ طفولته التي لم تتجاوز الثانية عشرة؛ فهو لم ينس حكايات سمعها وهو يقدّم القهوة لضباط جيش الإنقاذ بقيادة أديب الشيشكلي المدافعين عن مدينته عكا يرويها اللاجئون عن المذابح المروعة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في حق أهلهم من مدن حيفا ودير ياسين ويافا أثناء نكبة 1948.

سقطت عكا كما سقط ما سبقها من البلدات الفلسطينية كما تتساقط قطع الدومينو، مخلفة وراءها ملايين اللاجئين إلى البلاد المجاورة الذين كان من ضمنهم أسرة كنفاني؛ إذ لجأت إلى صيدا في لبنان ثم انتقلت من مدينة إلى أخرى بالشام، حتى انتهى بها المطاف إلى دمشق. هناك عمل كنفاني في الصحافة إلى جانب دراسته الثانوية حتى التحق بجامعة دمشق لدراسة الأدب العربي.

انتقل صاحب "أم سعد" إلى الكويت للعمل مدرسًا، وعمل أيضًا بالصحافة هناك وكتب فيها أولى قصصه القصيرة بعنوان "القميص المسروق"؛ إذ بدأ يجذب الاهتمام إلى موهبته. موهبة كنفاني كروائي تفجرت بالعديد من الأعمال الفنية بعد انتقاله إلى بيروت؛ فأصدر العديد من الروايات والقصص القصيرة كان من أشهرها "رجال في الشمس" و"عائد إلى حيفا" و"أرض البرتقال الحزين"، تحول بعضها إلى أعمال فنية.

في صباح 8 يوليو/ تموز 1972 اهتز أحد شوارع بيروت إثر انفجار ضخم، واستيقظ الناس على حطام سيارة بيضاء احترقت وهي لا تزال واقفة مكانها وتعلقت أشلاء راكبيها بأغصان الأشجار المحيطة. حينها، تلقّت رئيسة وزراء الكيان الصهيوني، غولدا مائير، خبر مقتل الروائي غسان كنفاني ومعه ابنة اخته لميس، بسعادة، كعملية اغتيال ناجحة لرموز ثقافية فلسطينية تدعم المقاومة وتناضل لإزالة إسرائيل من الوجود.

وعلى الرغم من أن كتاباته كانت تنصب فقط على القضية الفلسطينية، إلا أنها حظيت باهتمام عالمي؛ فتُرجمت إلى أكثر من سبع عشرة لغة ووزعت في أكثر من عشرين دولة. كان كنفاني يؤمن بأهمية الكلمة وخطورتها وتأثيرها: "أنا الذي أعرف أن الكلمة عندنا وسيلة، وأنها إن لم تستطع أن تتحول إلى حجر في يد الأعزل، إلى جواد تحت رجل طريد، إلى رمح في يد فارس، إلى ضوء في عيني أعمى، فلتسقط إلى النسيان والغبار والصدأ".

لا تزال فلسطين تجود على الأمة العربية والإسلامية بأيادٍ بيضاء تتمثّل في أبنائها الذين لا يملّون المقاومة بجميع أشكالها؛ فيدفعون من حريتهم وراحتهم وربما أرواحهم ثمنًا لما يؤمنون به، فهناك قرب القدس تتضح الرؤية وتنضبط البوصلة وتنكشف الحجب وتسقط الأقنعة.

لن يكون باسل الأعرج هو آخر المترجلين من ركب المثقفين المقاومين في سبيل حرية تلك الأرض المباركة كما لم يكن أولهم، لكنّ عزاءنا أن دماء هؤلاء وغيرهم تنير لنا الطريق وتصهر جبال ثلج يأسنا التي تراكمت على عقولنا وقلوبنا، خصوصًا بعد الانتكاسات التي مني بها الربيع العربي.

المساهمون