ليس على الفنّ أن يتوقّف في الحرب

21 أكتوبر 2023

(نبيل عناني)

+ الخط -

مع بداية الحرب الإسرائيلية المجنونة على غزّة، أعلنت إدارة مهرجان الجونة السينمائي المصري تأجيله في دورته السادسة إلى وقت لاحق من الشهر الجاري (أكتوبر/ تشرين الأول)، وبعده أعلنت دار الأوبرا المصرية تأجيل فاعليات مهرجان الموسيقا العربية، تبعهما مهرجان القاهرة السينمائي الذي كان يفترض أن تبدأ دورته الجديدة في منتصف الشهر المقبل (نوفمبر/ تشرين الثاني). وجرى إلغاء مهرجانات فنية عديدة في الوطن العربي بسبب ما يحدُث على أرض غزّة، ومنها أيام قرطاج السينمائية. وأرى إلغاء المظاهر الاحتفالية المصاحبة عادة في مهرجانات من هذا النوع، كالحفلات الصاخبة وظهور النجوم على السجادة الحمراء مثلا، ما كان يجب أن يعتمد في كل المهرجانات الفنية والثقافية المجدولة في الفترة الحالية؛ أي أن تستمر الفاعليات الثقافية وتلغى المظاهر الصاخبة والمستفزّة للناس، وأن يُحشد لحملة تبرّعات ضمن هذه المهرجانات تخصّص لغزّة.

قد يرى بعضُهم أنه لا يوجد أي معنى للفن والإبداع في زمن الحروب وانتشار رائحة الدم والموت، ويرى آخرون أن الانخراط في فاعلياتٍ فنّية وثقافية في هذا الزمن هو بمثابة التجاهل لما يحدُث والتعامي عنه والاستعلاء على ضحاياه. تُغذّي وجهة النظر هذه مظلومياتٍ واقعيةً يتبنّاها بعض ضحايا الحروب السابقة والكوارث البشرية المشابهة (مثل كثر منا نحن السوريين حاليا). وفي المقلب الآخر، هناك من يرى أن لا معنى لإيقاف الحياة لأن حربا ما قائمة في مكان ما قريب، بل يجب أن يكون ذلك مدعاة للانغماس أكثر في مباهج العيشن لكون الحياة مرحلية وقصيرة والموت قريبا ولا ينتظر أحدا.

تستحقّ وجهتا النظر هاتان التفكير والتقدير والتفهّم، فمن جهةٍ ما يشعر ضحايا الحروب أنهم عرضةٌ دائما لسؤال الإحساس بالخذلان والمرارة وعدم الفهم، لماذا تسير الحياة في مكان آخر، بينما هم ضحايا إجرام وموت همجي يومي. وهذا في كل الأحوال سؤال قديم جدا طرح تاريخيا عبر الفنون، سواء في الموسيقا أو الفن التشكيلي أو في الأدب. ولا يبدو أن الإجابة عنه سوف تكون في المتناول، طالما أن منطق القوة والاستعراض والاستعلاء هو الذي يسود ضد الرحمة والتعاضد والتشاركية على هذا الكوكب. ومن جهة أخرى، يدفع فرط الموت وعبثيته البشر نحو التعلق بالحياة أكثر في محاولة لدفع الموت القريب أو تأجيله.

ولكن عدميةً مطلقةً في الحالتين السابقتين، تساوي الموت بالحياة، بحيث يتم تحييد كل ما هو كفيل بتغيير المعايير الموجودة لصالح استمرار الحال على ما هو عليه: استعراض مدمّر للقوة العسكرية والاقتصادية يغذّي التفوّق العرقي والطبقي والقومي، وينتج مزيدا من الفاشية التي تدمّر لا البشرية فقطن بل كوكب الأرض كله، بسبب صراعات المصالح والتفرّد بالسيطرة على موارد الكوكب. أما أدوات التغيير فتتمثل أكثر ما تتمثل في الفنون والإبداع والثقافة، حيث تُظهر القدرة الأكبر على فضح آليات التحكّم والسيطرة، والتي هي الأجدر بتفكيك علاقاتها المتشابكة، وكشفها أمام المجتمعات في المسيرة الطويلة لتغييرها واستبدالها بمعايير تُعلي من شأن العدالة والمساواة والتآخي والتشارك ونبذ خطاب الكراهية والعنصرية الذي يزداد غلوّا يوما وراء يوم.

لن تستطيع قصيدة وقف الحرب حتما، ولن يستطيع فيلم سينمائي ذلك، ولا عمل مسرحي، ولا تقدر لوحةٌ تشكيلية أو مقطوعة موسيقية علي وقف صاروخٍ قاتلٍ مصوّب نحو مشفى يضم أطفالا ونساء، لن تنقذ الفنون أحدا من موتٍ عشوائيٍّ مجنون، لكن تراكمها يمكنه أن يشكّل ذاكرة جمعية تكترث لقيم الجمال والحق والحياة ضد الموت والقباحة والقتل، خصوصا في وقت الحروب الطاحنة، فهي من أشكال المقاومة السلمية ضد جعجعة السلاح والعسكر، وهي من طرق فهم العيش والحياة وإنتاجهما في وقت تسيّد الموت والعدم، وهي من وسائل التأسيس لمستقبل ما بعد الحرب، المستقبل الذي تحاول القوى المسيطرة على كوكب الأرض اليوم تخصيصًه لفئاتٍ يجري القول إنها الأصلح للبقاء، بوصفها الأقوى والأغنى في استعارة حديثة للنازية، واعتمادها منطقا يرفع شعار مكافحة الإرهاب والقضاء على الإرهابيين الذين هم شعوب العالم الثالث المحكومة بمنظوماتٍ استبداديةٍ سياسيةٍ ودينيةٍ واجتماعية، تحارب أول ما تحارب الفنون والثقافة والإبداع، وتنظر إلى الموت في أكبر تماهٍ مع القتلة والمجرمين، تمارسه مجتمعات تعاني من ويلات الحروب وأهوالها.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.