لماذا قد لا يعمل المصريون في البرمجة؟

لماذا قد لا يعمل المصريون في البرمجة؟

02 مايو 2024

(محمد عبلة)

+ الخط -

قبل أيام، وفي سياق استمرار حديثه التقريعي للمصريين، بدأ الرئيس عبد الفتاح السيسي افتتاح مركز البيانات والحوسبة السحابية في العاصمة الإدارية، وهو يلومهم على تعليم أبنائهم في كلّيات التجارة والآداب والحقوق، ولا يجدون عملاً، تاركين مجال البرمجة، وهو المجال المربح جداً، الذي يراه كنزاً لمصر، وتصل الأجور فيه إلى 20 أو 30 أو مائة ألف دولار في الشهر، عبر العمل من المنزل، بدلاً من إلقاء اللوم على الدولة أو الحكومة. وكان السيسي نفسه قد قال إنّه عندما أجري اختبارٌ للمبرمجين، لم ينجح سوى 111 شخصاً من بين أكثر من 300 ألف، ما أثار زوبعة حينها، من دون أن يراجعه كثيرون حوله اعتادوا تصديق كلامه من دون تفكير، وهو نفسه كان يريد تدريب ألف شخص، وقال إنّ كلفة الشخص في هذا المجال تزيد على 30 ألف دولار. لماذا يلوم المصريين إذاً، وليس بإمكان غالبيتهم الساحقة أن يدّخروا هذا المبلغ طوال حياتهم، في ظلّ الأجور والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السائدة بفعل السياسات الحكومية؟

تناول بعضهم تصريحات السيسي تلك في مواقع التواصل، وانطلقت النكات والتحليلات مليئة بخفّة دمّ المصريين بشأن هذه التصريحات، التي تكاد تكون عارية تماماً من الصحّة، إذ، حتّى لو افترضنا أنّه يقصد مبالغ سنوية لا شهرية فهي بعيدة كلّ البعد عن واقع من يعملون عبر الإنترنت في مصر، سواء في البرمجة أو غيرها، بل العجيب أنّ دخول العاملين في البرمجة في مصر ضمن الأدنى عالمياً، ولا تكاد تتجاوز 20 ألف دولار، وفق تقرير أجور مُطوّري البرامج في عام 2023. بل عندما نراجع أجور المصريين العاملين في هذا القطاع، ولحسن الحظ هناك شركات ومواقع متخصّصة تقدّم هذا، نجد أنّ المُبرمجين المصريين يحصلون على واحد من أدنى الأجور عالمياً، حتّى أنّ الشباب الإيرانيين العاملين في هذ المجال، وباقي مجالات العمل الإلكتروني الحرّ، يحصلون على ما يزيد بأربع مرّات عن نظرائهم من الشباب المصريين. وبسبب سوء خدمات الإنترنت في مصر، وانقطاع الكهرباء بشكل منتظم، منذ قرابة العام، أصبح المصريون يجدون فرص العمل هذه بصعوبة بالغة، فطبيعة هذه الأعمال تقتضي السرعة في تنفيذ المهام المطلوبة للحصول على مقابل أعلى، بينما يضطر المصريون لإنفاق أكبر على البنية التحتية للتكنولوجيا والكهرباء والإنترنت من جيوبهم الخاصة، لضمان استمرارهم في العمل، ولو في الحدود الدنيا، إذ إنّ الشيء الوحيد المنتظم في مصرنا المحروسة اليوم هو جدول انقطاع الكهرباء، التي تغيب ساعتين على الأقل يومياً، فإذا كان الرئيس يلوم المصريين لأنّهم لا يُدْخِلُون أبناءهم التعليم التكنولوجي، الذي يجعلهم يعملون من البيت برواتب تصل حتّى مائة ألف دولار شهرياً، فمن المفترض أن يعاقب من يتسبّبون بقطع الكهرباء ساعتين يومياً لأنّهم يدمّرون الدخل القومي ومستقبل البلاد.

لدى مصر واحد من أعلى معدلات الشباب خارج دائرة التعليم والعمل والتدريب عالمياً، تقترب من نسبة 28%

لا يقف الأمر عند هذا الحد، فرغم دعاوى الشمول المالي، التي أُطلِقَتْ منذ سنوات، واستبشر بها كثيرون، فإنّ هناك أزمةً حقيقيةً في فتح حسابات مصرفية لمن ليست لديهم مهنة مثبّتة في بطاقات الرقم القومي، وبتعاقد مع شركة محلية، ومن ثمّ، يواجه هؤلاء المنخرطون في سوق العمل الرقمي في مصر أسوأ أوضاع في المنطقة عندما يتعلق الأمر باستقبال الأموال التي هي أجورهم، فيتلقّونها بصعوبة، وبعمولات مُرتفعة، وكثير منهم يلجأون إلى الطرق غير الرسمية رغم هشاشة (وغياب) الضمانات فيها. لا يتوانى المصريون في الإنفاق على تعليم أبنائهم، وينفقون من جيوبهم ضعف ما تنفقه الحكومة على التعليم سنوياً، حتّى أنّ مراكز الدروس الخصوصية أصبحت هدفاً حكومياً لجباية الضرائب، وتقنين الظاهرة، بل والمنافسة على عوائدها عبر فرض مجموعات التقوية المدرسية على الطلاب وأولياء الأمور، بدلاً من السعي للقضاء على الظاهرة بتعزيز أجور المعلّمين، ونظام التعليم، وتحسين بنيته التحتية.

والحقيقة التي قد تغيب عن الرئيس أنّ المصريين يبذلون ما في وسعهم للتأقلم مع سوق العمل بشروطه الرديئة، التي لم يشاركوا في صنعها، ولا تحكمها قوانين ولا أعراف، وهي سوق عمل مليئة بالتشوّهات مثل البطالة المقنّعة، والعمل الهشّ، وفي الوقت نفسه، العمل الشاقّ ساعات هي أطول ساعات العمل عالمياً، وإذا كان اللوم على الشباب، فلدى مصر واحد من أعلى معدلات الشباب خارج دائرة التعليم والعمل والتدريب عالمياً، تقترب من نسبة 28%. ورغم ارتفاع الإنفاق الاجتماعي، إلا أنّ الأهالي الذين يلومهم الرئيس قد أُفقروا، فالفقر أيضاً قد ارتفع بسبب الخلل في السياسات الكلّية المرتبطة بالأجور، فتدنّي الأجور هو الآلة الأكثر أهمية لإنتاج ملايين الفقراء كلّ عام. وكذلك، أفقر هؤلاء بسبب إطلاق يد السوق، سواء في تعديلات قوانين الاستثمار أو قوانين العمل والأجور، ويمثّل العمل في القطاع غير الرسمي ظاهرة بالنسبة للشباب المصريين، إذ وفق تقرير التنمية البشرية العربي (2023)، فإنّ أكثر من 90% من الشباب المصريين يعملون في القطاع غير الرسمي، وهو القطاع الذي يوفّر بشكل أساسي وظائف تتطلّب مهاراتٍ منخفضةً وإنتاجيةً منخفضةً وموجهةً لتوفير حدّ الَكفاف. على الرغم من أنّ العمل غير الرسمي يمثّل حلاً قصير الأجل لبطالة الشباب، إلا أنّه غالباً ما يكون له تأثير سلبي طويل الأجل على إمكانية توظيفهم.

ينفق المصريون على تعليم أبنائهم، وينفقون من جيوبهم ضعف ما تنفقه الحكومة على التعليم سنويا

 

يفكر السيسي ومن حوله في أمور يظنّونها خارج الصندوق، فتارّة يتحدّثون عن تصدير المهندسين والأطباء والبشر مصدراً للعملة الصعبة، وكأنّنا في عهد النخاسة وتجارة العبيد، ويحاولون إعداد آلاف من المبرمجين لهذا الغرض فقط، ونتمنّى جميعاً أن تصبح مصر مركزاً للتعهيد، لكن علينا أن نتساءل: لماذا يهاجر مبرمجو مصر إلى الأبد للعمل من منازل في أوروبا ودول عربية؟ قبل أن نسير في مسار تخريج أطباء ومهندسين لأسواق غير مصرية، ولا نستفيد سوى من أموال التحويلات، إنّ ظلّ هؤلاء متمسّكين بالبقاء في مصر أساساً، ولم يهاجروا كرهاً لا طوعاً. وفي إطار هذا التفكير أيضاً، نتمنّى أن تحدُث رقمنة حقيقية، لا رقمنة مدفوعة الثمن للخدمات، تجعل من مصر البلد الوحيد الذي يبيع اسم المستخدم وكلمة المرور لخدمات عديدة، ومنها خدمة التسجيل في بوابة الحج والعمرة، وخدمة الفاتورة الإلكترونية، وأن تُراجَعَ فكرة رسوم الدفع الإلكتروني، ثمّ توصيل الإيصال إلى مقدّم الخدمة التي تفعّلها غالبية الجامعات المصرية، كما نأمل ألا يتم التحقيق مع عاملين عديدين من المنازل لأنّهم فقط حصلوا على 50 دولاراً مقابل جهدهم وعرقهم، وألا يضطرّوا لطرقٍ ملتويةٍ وغير رسميةٍ لتحصيلها، فيما يفكّر العاملون في البنوك وفي فروع بعض شركات تحويل الأموال، ومديريهم، في أنّها قد تكون أموالاً لتمويل الإرهاب.