العصر الذهبي اللبناني كان أصلُه عربيّاً

العصر الذهبي اللبناني كان أصلُه عربياً

16 مايو 2024
+ الخط -

الجحيم اللبناني الراهن تربةٌ خصبةُ لمشاعر النوستالجيا. الأيام الخوالي تحتلّ مكان الصدارة في مخيّلة اللبنانيين. وكلما تعاظمت محنتُهم، كبرت هذه النوستالجيا، وتمدّدت، لتتحوّل إلى نوع من التأريخ الشفهي لما كان عليه حالهم قبل ابتلائهم بما هم مبتلون به الآن. للنوستالجيا بعض الحقّ، فمن منّا لا يحلم بهواء الماضي النظيف، ونسائه ورجاله، وطعامه ومنازله وشوارعه، بصحافته وسينماته ومسارحه ومقاهيه ومطاره "الدولي"، على ألا يخلط بين حنينه إلى طفولته وشبابه، والاثنان جميلان في كلّ الأحوال، بين الاثنيْن، إذاً، وبين الحنين إلى مجمل ما كان، وإلا تحوّل المُشتاق إلى مُؤرّخ غير دقيق للحقبة، يُسقط عليها أمنيات، وربّما أيضاً، مشاريع مستقبلية وهمية.

عن أيّ حقبة نتكلم بالضبط؟ ليس عن التي غطّت الحرب الأهلية (1975)، ولا التي تلتها، أي الحكم السوري وتسميته الرسمية "وصاية"، وقد استمر 15 سنة، بعد نهاية هذه الحرب، وشرعيته القائمة على دعم مقاومة حزب الله من أجل تحرير فلسطين، ولا من بعده "تحكّم" حزب الله، الذي بدأ فور انتهاء "الوصاية"، وما زال مستمراً حتّى الآن، يقرّر بمفرده خوض الحروب أو وقفها، بناء على توجيهات المرجع الإيراني. إنّها المُدّة بين بداية الخمسينيات واندلاع الحرب، أي أن عمرها لا يتجاوز 17 عاماً (1950 - 1975). خلال هذه السنوات القليلة، كانت بيروت مركزاً محورياً للتجارة العالمية، والأسواق المالية العربية، ومركزاً للنقل البحري والبرّي، ومركزاً للترفيه وللتربية والفن والموضة، ومقرّاً لعديد من الشركات المُتعدّدة الجنسيات... إلخ.

ما هي نقطة انطلاقته هذه؟ فلسطين ومصر. قبل النكبة الفلسطينية، كانت شركة أرامكو قد قرّرت بناء خطّ أنابيب للنفط يصل السعودية بميناء حيفا الفلسطيني. ولكن من بعدها، تغيّرت الوجهة، وقرّرت الشركة تحويل الأنابيب إلى جنوب لبنان، على بعد خمسين كلم من بيروت، فكانت ما تُعرف بمحطّة الزهراني. وفي الوقت نفسه، وللأسباب نفسها، كانت شركة بترول العراق تختار طرابلس (شمال لبنان)، لتكون بديلاً من حيفا، ميناءً لإيصال النفط إلى الخارج. في الوقت نفسه، بعد عامين على بداية الخمسينيات، كان انقلاب الضبّاط الأحرار، وهروب عددٍ كبيرٍ من رجال الأعمال والمصرفيين والصناعيين، المصريين والشوام (ذوي الأصول اللبنانية السورية)، والأجانب، من إجراءات التأميم، وغالبيتهم اختارت لبنان. بيروت كانت تناسبهم لما تتمتّع به من قدرات لمرفئها ومطارها، وحرّية اقتصادها، وقلّة بيروقراطيتها، وحرارة الاستقبال اللبناني لتجّارها ورجال أعمالها (قارن بين استقبالها لهم، واستقبالها للاجئين الفلسطينيين الذين بفضل نكبتهم انطلق اقتصادها).

خرج الجيش السوري من لبنان، وورثه حزب الله، الذي عاد وشكر الأسد الابن على تسليمه لبنان. وكان ردّ الجميل بأن دخل مسلحو الحزب سورية، دفاعاً عنه

ولبنان وريث المدارس والإرساليات الأجنبية والمطبعة واللغات المتعدّدة، وحرّية حركة أبنائه، والطائفة المسيحية الرائدة في التحرّر الاجتماعي قبل كتابات سيمون دي بفوار ووليم رايخ. بيئة تيسّر أنواعاً من الأنشطة الذهنية، أيضاً، دور نشر، صحافة، مجلّات، مراكز أبحاث، اتجاهات شعرية ونثرية جديدة، فنون على أشكالها، يأتي تمويلها من جهات عربية مُتضاربة، متناقضة، وكلّ شطارة الباحث عن مموِّل هي تقديم مشروعه بما يقنع الزعيم الداعم. هكذا، مثلاً، كنتَ ترى تنافساً بين معمّر القذافي وصدّام حسين على تمويل هذا أو ذاك، من أصحاب الطموح، في تأسيس شيء ثقافي إعلامي مطبعي. هذه الفترة بالذات هي "الضاربة"، يعيشها اللبنانيون، بمن لم يعايشها، بالقدر الأكبر من الحنين. هي المكرَّسة على أنّها "الذهبية" الأصلية، وموضوعات الحنين الأخرى ليست سوى تفرُّع منها، أو تقليد بائخ لها. ولكن، أيضاً، على هامش هذا الازدهار، كانت العيوب قاتلة؛ نظام طائفي مُعلّب، معروفة نتائجه سلفاً لمصلحة طبقة حاكمة مُؤلّفة من تجّار وإقطاعيين وزعماء طوائف، أو الثلاثة معاً. كلما لمعت بحبوحته، ازداد عدد المتضررين منها، وهي منْفلتة من عقالها. فحرمان مناطق الأطراف المُهمّشة، المعدومة، شمالية وجنوبية. وعجز الأحزاب التغييرية، اليسارية والإسلامية، عن تحقيق أي تبديل في موازين الطوائف والطبقات. صعود فكرة "حرب التحرير الشعبية" من أجل فلسطين، بعد فشل الجيوش العربية، وتشكّل الفصائل الفلسطينية المُسلّحة، والتلاقي اللبناني الفلسطيني على إسقاط هذه الطبقة، وتلاحم هموم المُهمَّشين، طائفياً وطبقياً، مع أهداف تحرير فلسطين. ثمّ نهاية الحرب، حكم حافظ الأسد مباشرة، ومن دون أقنعة (وقد سمي هذا الحكم "وصاية")، فكانت 15 سنة أخرى من الاستلاب اللبناني، من انتزاع حقّ اللبنانيين في تقرير مصيرهم. خرج الجيش السوري من لبنان، وورثه حزب الله، الذي عاد وشكر الأسد الابن على تسليمه لبنان. وكان ردّ الجميل بأن دخل مسلحو الحزب سورية، دفاعاً عنه. ولكنّه، أخيراً، يبدو كمن خرج من عباءته، يخوض حرباً لا يريدها اللبنانيون، يضبطها على الساعة الإيرانية، فيعفي الملالي من خوض حرب صريحة ضدّ إسرائيل، ليتقرّر على ضوئها اسم البلد المسيطر على المنطقة، أو صاحب الحصة الأذكى في غنائم الحرب على فلسطين.

النوستالجيا ليست أداة تأريخ، ليست مشروعاً للسياسة، ولا منطلقاً مفيداً لبناء مستقبل ما، أو استيعاب حاضر مريب

ولبنان بدوره واقع تحت سابع أرض. انهيار مؤسساته، وحزبه المسلح البديل عن دولته، لصوص كبار وصغار، قابضون على اقتصاده ومعاشه وطرقه، دخان المازوت المتصاعد فوق مدنه، يوميات القهر مع مصارفه التي نَهبت أموال مواطنيه، خراب وفوضى و"سينيكية" باتت جزءاً من شخصيته، وطفَشان نحو بلاد بعيدة أو قريبة، وبُعد مكان الهجرة بحجم يأس المهاجر إليها. لبنان، هذا، كيف لا يصنع في خياله عصراً ذهبياً يخفّف عنه وجع البشاعة الراهنة، لا محدودية البشاعة؟ طبيعي في هذه الحالة أن تكون النوستالجيا مرْهما للروح المعذّبة الضائعة، وسط الخرابة هذه. ولكن، أولاً، المغالاة في تلميع العصر الذهبي يلغي أسباب تكوّنه، ويسهل إحالته إلى "العبقرية" اللبنانية. إنّه عصر عربي فلسطيني. عندما سقطت فلسطين، كانت نقطة الانطلاق (إذ ما كان يمكن أن ينقلب جمال عبد الناصر على الملك فاروق لولا فشله في حربه الأولى ضدّ إسرائيل الناشئة). وعندما أعيد إحياء القضية الفلسطينية كانت نقطة تفجير، وبعدها السوري؛ نقطة ابتزاز، والإيراني؛ نقطة موت أو حياة. في النهاية، النوستالجيا ليست أداة تأريخ، ليست مشروعاً للسياسة، ولا منطلقاً مفيداً لبناء مستقبل ما، أو استيعاب حاضر مريب. صحيح أنّها تصيب شعوباً ومجموعات ليعبّروا بواسطتها عن ضيقهم مما يعيشونه في حاضرهم، لكنّ النوستالجيا فعل شخصي، فردي، زبدته ما عاشه صاحبها مباشرة، من طفولته وشبابه، وما بعد شبابه إذا طالَ عمره. إنّها الذاكرة الخاصة مع حاضرها.

أمرٌ آخر، محيطنا العربي، السوري الفلسطيني المصري، هو في حالة تفاعل دائمة مع لبنان ودواخله. بالإيجاب كما رأينا، وبالسلب كما بلغنا. أي أنّنا لا نستطيع أن نغمض أعيننا على واقعنا المباشر إذا لم نضمّ إلى "إطار" مُخيلتنا كلّ هذه البقعة الممتدة من شرق البحر المتوسط إلى جنوب شرقه، وامتداداتها العربية. وبعد ذلك، تأتي "التدخّلات" الخارجية البعيدة، على معاييرها.