غزّة ترّن الجرس

غزّة ترّن الجرس

30 ابريل 2024
+ الخط -

في جامعاتٍ عريقة، وصروحٍ عتيقة، ومبانٍ أكاديمية مرّ بها الفلاسفة والمفكرون والشعراء والفنانون قبل عقود، وكان بلفور بحدِّ ذاته أحد هؤلاء المارين من هنا، قبل أن يَمنح أرضًا لا يملكها لشعبٍ ليس أهلًا لها، هنا في أعرقِ الأماكن، والشوارع، والبنايات، يبدو اسم غزّة مألوفًا فجأةً إلى حدٍّ كبير، وقد كان قبل شهور فقط، اسم مدينة بعيدة لها علاقة بالصراع في "الشرق الأوسط"، وتلك الأحاديث المُملّة المتكرّرة عن "احتلال" و"فصل عنصري" و"حصار" و"مقاومة"، وأشياء مبتذلة من هذا القبيل، حيث يردّد كلّ من الطرفين الجزء الذي يخصّه من الحكاية، لماذا لا يتعايشون معًا ويكفّون عن تصديع رؤوسنا بتلك الدروس الإضافية في مناهج العلوم الإنسانية والسياسة والاجتماع؟

لكنّها اليوم، غزّة، تسافرُ بدمائها التي تسيل وأشلائها التي تتدلَّى، عابرةً آلاف الكيلومترات، وسابحةً آلاف الأميال، وسائرةً مئات الليالي، نحو جامعات ييل وكولومبيا وهارفارد ونيويورك وتكساس، وعشرات الجامعات في مختلفِ الولايات، تحدّثهم عن نفسها، بخليطٍ من أصواتِ الصغار في ضحكاتهم الأخيرة قبل الموت، وبصرخاتِ الأمّهات في اللحظاتِ الأولى وقت القصف، وبمزيجِ أنّات الجرحى وبكاء المسنّين، وزمجرةِ المقاتلين وحشرجةِ الشهداء، تخلع أيّ قناع عن وجهها، ليكتشفوا أنّ خلف اللثام إنسان، يحبُّ الحياة، ويريد الحق، ويحرّر الأرض، ويحمل الفأس، ويتحمّل البأس، في سبيل كرامته وعزّه، لا يريد من الدنيا إلّا ما قُسِّم له أولًا، ولا يهمه فيها إلا مسجده الذي يصلّي فيه وبناه أجداده، والأرض التي يحرثها وملكها آباؤه، والبيوت التي يقطنها وزيّنتها بأنفاسها أمّهاته!

أرى غزّة واقفةً في قاعة المحاضرة، فوق منصّة عمرها أكبر من عمرِ إسرائيل بمائةِ عام، وبين جدرانٍ أحدث حجر فيها أقدم من أوّلِ وثيقةِ هُويّة لمستوطنٍ إسرائيلي، تبدأ بالسلام وهي المبتلاة بالعدوان، وتصلّي على النبيّ الذي علمها الرحمةَ والحميةَ معًا، وتنادي أحرار العالم بصوتها المبحوح، وبرئتين جريحتين تتنفسان بالكاد، وبلسانٍ أثقله ما رأته العينان من أهوالٍ وويلات، تعلّمهم بكلماتٍ دقيقة، وبحروفٍ مختصرة، الدرسَ الذي لم تعلّمه، أبدًا، إيّاه كلياتهم، ولم تضعه سلطات المناهج في هارفارد وكولومبيا ونورث ويسترن، ولم يبالِ به الأساتذة في دروسهم الطويلة؛ تُعلّمهم من جديدٍ، أوّل حروف الأبجدية: ألِفٌ إنسان!

يبدو اسم غزّة مألوفًا فجأةً إلى حدٍّ كبير في دول وجامعات الغرب، وقد كان قبل شهور فقط، اسم مدينة بعيدة لها علاقة بالصراع في "الشرق الأوسط"

تبكي غزّة ويتحلّقون حولها، يُجفّفون بجبابِ التخرّج دموعها، يُلبسونها فوق رأسها قبعةَ الاحتفال، يُجفّفون عرقها بشهاداتهم باهظة الثمن، يبنون لها من خشبِ المقاعد منبرًا، يحملون لها في حقائبهم زجاجات مولوتوف وشطائر جبنٍ مُعدّة بحبٍّ وبراءةٍ، يصنعون لها من حدائق حرَمهم سريرًا تُريح فيه، ولو قليلًا، جسمها، ويهيئون لها من الساحات منصّةً واسعة فسيحة، لا تَضيق بدموعها الغزيرة، وبنداءاتها المُجلجلة، ويخلّقون من أحضانهم المُتراصة بعضها بجوارِ بعضٍ عناقًا هائلًا عن كلِّ الغيابات الماضية، ويقدّمون لها من عميق أفكارهم اعتذارًا طويلًا عريضًا عن الرسوب في اختبار الإنسانية خلال الفصول الماضية، ويشرحون لها على الأوراق المُمزّقة كيف أنّ سلطاتهم الأكاديمية هي المسؤولة أولًا عن السقوط.

لا تقول غزّة شيئًا، تقبلهم، وتقبّلهم، وتحتويهم داخل قفصها المكسور، تفهم العذرَ الصادق، وتعرف المسألةَ كاملة، وتمنح كلَّ أجوبتهم العلامةَ الكاملة، بينما تبدأ الدرس الثاني قبل دقيقةٍ من نهاية الوقت: باءٌ بندقية، ثم ترنّ الجرس، ليبدأ خارجَ القاعة وقتُ الامتحان.